منذ بدايات التاريخ، كان الجدل بين القول والفعل أحد أعمق المعضلات التي واجهت الفكر الإنساني: أيهما الأصل وأيهما الفرع؟ أيهما يسبق الآخر: الفكرة أم الفعل، الكلمة أم الحركة، المعنى أم الأثر؟
لقد ميّز مارتن هايدغر، في فلسفته حول الكينونة، بين ما هو مجرد أداة نفعية وبين ما هو أعز مقتنيات الإنسانية: القدرة على القول، على الفكر، على اللغة التي تحفظ الكينونة وتكشفها. وإذا كان رجال ونساء الأقوال هم مبتدأ التاريخ، فإن رجال ونساء الأفعال لا يظهرون إلا كخبره، كتجسيدٍ أو نتيجةٍ أو ظلٍّ لما تفتّق عنه القول.
إن الاستخفاف بالعقل والمعرفة والثقافة والكلام هو بحد ذاته ضرب من الانتحار الحضاري؛ لأن القول ليس ضد الفعل، بل هو ـ في حالات كثيرة ـ فعلٌ يتجاوز حدود الفعل المجرّد. فما قيمة القوة العارية إذا لم تُؤسَّس على خطاب، وما جدوى السلطة الغاشمة إذا لم تستند إلى معنى يشرعنها؟ هنا، تصبح الأفعال مهما بلغت عنفوانها، أقرب إلى سديم عابر، أو إلى عدمٍ فارغ، إذا لم تسندها الكلمة وتُعطها دلالةً ومعنى.
في الفكر السياسي الحديث، عبّر جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد، عن هذا التداخل العميق بمفهوم “القوة الناعمة”. وهي قدرة الأمم على التأثير والإقناع وجذب الآخرين عبر الثقافة والفكر والمعرفة والقيم، لا عبر السيف وحده ولا عبر المال فقط. هذه القوة، وإن كانت غير ملموسة مادياً، إلا أنها قد تُحدث آثاراً تتجاوز في عمقها وأمدها ما تحققه القوة الخشنة من سلاح أو عنف. لقد أدركت الإمبراطوريات الكبرى أن وجودها لا يترسخ بالهيمنة العسكرية وحدها، بل باستعمار العقول وإغراء الأرواح بالرموز والمعاني.
وإذا عدنا إلى التاريخ، وجدنا أن الحضارات التي بقيت لم تكن بالضرورة أقوى عسكرياً، بل أقدر على إنتاج قول خالد ينجو من الخراب. فاليونان مثلاً لم تحفظها قوة جيوشها بقدر ما حفظتها قوة خطاب فلاسفتها ومسرحييها، والإسلام لم ينتشر بالسيف بقدر ما انتشر بالكلمة: بالآية والحديث والخطاب العادل المقنع. كذلك الشيوعية لم تزلزل العالم أولاً بالمدفع، بل ببيان كارل ماركس وفريدريك إنجلز الذي كان قولاً أطلق أفعالاً هزّت البنى السياسية والاجتماعية لقرنٍ كامل.
من هنا، يصبح السؤال: هل القول مقدمة للفعل، أم هو فعل بحد ذاته؟ يبدو أن القول هو الشرط الأول، هو الحقل الذي يُستنبت فيه الفعل. القول هو الذي يمنح الفعل ذاكرةً ومعنىً، ويحيله من مجرد حركة عابرة إلى حدثٍ تاريخي يُكتب ويُتداول ويُعاش. بل يمكن القول إن أعنف الأفعال وأكثرها تدميراً إذا لم تُؤسَّس على خطاب عقلاني وثقافي، فإنها تذوي سريعاً كما تذوي نار الحطب اليابس.
في زمننا الراهن، حيث تتنازع البشرية أشكالاً متعددة من القوة، يتضح أن الغلبة ليست بالضرورة للأكثر امتلاكاً لوسائل العنف، بل للأقدر على صياغة خطاب يجذب العقول ويأسر القلوب. الكلمة هنا تصبح ليست مجرد وسيلة بل غاية؛ ليست مجرد زينة للسياسة بل لبّها وجوهرها.
إن تاريخ الإنسانية ليس سوى حوار طويل بين القول والفعل. وما لم نفهم أن القول فعلٌ بحد ذاته، بل فعل مؤسِّس لكل أفعالنا، فإننا سنبقى أسرى السديم العابر والعدم الفارغ.
