السياسي –
وسط أجواء صاخبة في استاد ويمبلي، بدت الشابة الإسبانية أيتانا لوبيز (26 عاماً) وكأنها تعيش لحظة لا تُنسى في حفل لفرقة “أواسيس”، بابتسامة مشرقة وشعر وردي منسدل على كتفيها. لكن الحقيقة أن أيتانا لم تكن هناك.. بل إنها لم تكن موجودة أصلاً.
أيتانا ليست إنسانة، بل واحدة من أوائل المؤثرات الافتراضيات بالذكاء الاصطناعي، اللواتي يغزون صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بملامح مثالية وأجساد منحوتة بلا عيوب، في ظاهرة تثير جدلاً واسعاً حول مستقبل صناعة المحتوى ومعايير الجمال.
جمال مصطنع.. وخطر حقيقي
تستعرض أيتانا ومثيلاتها حياة “مثالية” يصعب بلوغها، فيما تنهال التعليقات من متابعين لا يدرك كثير منهم أن هؤلاء المؤثرات مجرد خيال رقمي.
وتحذر خبيرة علم النفس شارلوت فوكس ويبر من خطورة الظاهرة قائلة: “هؤلاء المؤثرات لسن جذابات فقط، بل مُتقنات خوارزمياً إلى درجة غير واقعية. التعرض المتكرر لصورهن يُغيّر تدريجياً مفهومنا عن الجمال الطبيعي، ويجعل أجسادنا وأجساد شركائنا تبدو ناقصة”.
أما هانا أودونوغيو هوبز، مؤسسة منصة “January 92 Socials”، فترى أن الأمر أبعد من مجرد صور براقة: “إنه مستوى من الكمال مستحيل التحقيق لأنه غير موجود أصلاً”.
فلسفة مثيرة للجدل
ابتكار أيتانا جاء على يد وكالة إسبانية تُدعى “ذا كلوليس”. ويقول مؤسسها المشارك روبن كروز إنه لجأ إليها بعد “إرهاقه من التعامل مع غرور البشر الحقيقيين”، مضيفاً أن العارضة الافتراضية “لا تُجادل، ولا تحتاج أجراً، وجسدها المثالي جاهز دوماً للإعلانات”.
لكن هذه “الفلسفة” وُصفت بأنها “مروعة” من قبل الدكتورة كارولينا آري، الباحثة في وسائل التواصل الاجتماعي بجامعة نورثمبريا، معتبرة أن مؤثري الذكاء الاصطناعي “يقصون المبدعين الحقيقيين من المصورين والمصممين إلى عارضات الأزياء”.
أرباح طائلة.. وصناعة مزدهرة
ورغم الجدل، فإن المال هو المحرك الأساسي. فقد أفادت تقارير بأن أيتانا تدرّ على مبتكريها ما يصل إلى 8000 جنيه إسترليني شهرياً عبر صفقات إعلانية واشتراكات على منصة “Fanvue”، المنافس لـ”OnlyFans”، حيث يدفع المعجبون مقابل رسائل ومحتويات مصممة بالذكاء الاصطناعي.
هذا النجاح شجع الوكالة على إطلاق مؤثرات افتراضيات أخريات بأسماء مثل “كاي توليدو” و”أوليفيا روا”، جميعهن يتمتعن بملامح متقاربة: عيون واسعة، شفاه ممتلئة، وقوام مثالي.
تأثير اجتماعي مقلق
لكن انتشار هذه “الدمى الرقمية” لا يخلو من تداعيات خطيرة. فمعظم متابعي أيتانا – بحسب بيانات – هم رجال، ما يعزز ثقافة التشييء. وتقول فوكس ويبر: “العديد من هذه النماذج الافتراضية صممها رجال ويملكونها، وهو ما يعكس شكلاً جديداً من تهميش المرأة وتحويلها إلى سلعة قابلة للتداول”.
إلى جانب ذلك، يثير الاعتماد على مؤثرين افتراضيين قلقاً بشأن سوق العمل الإبداعي، مع استبعاد العارضات والمصورين وفناني المكياج.
“أصالة زائفة” أم مستقبل المحتوى؟
بينما تدافع الوكالات عن هذه الممارسات باعتبارها “توفّر المال وتقدم مستوى جديداً من الأصالة”، يرى خبراء أن الأمر يهدد بثقة الجمهور ويُغذي معايير جمالية مدمرة، خصوصاً لدى النساء والشباب.
وتختصر الباحثة آري الأمر بقولها: “الخطر لا يقتصر على النساء المزيفات، بل في أن يتحول الخيال إلى معيار، ونبدأ في لوم الواقع لأنه لا يواكب”.
في النهاية، وبينما تجني شركات مثل “ذا كلوليس” الأرباح وتواصل التوسع في إنتاج مؤثرات جديدة، يظل السؤال معلقاً: إذا لم يكن هؤلاء المؤثرون حقيقيين، فما الهدف؟ وهل نحن على أعتاب عصر افتراضي يختفي فيه الخط الفاصل بين الواقع والوهم؟