لم تكن حادثة تأخير دخول مجموعة من الفلسطينيين القادمين من غزة إلى جنوب أفريقيا مجرد إشكال إجرائي يتعلق بختم أو وثيقة سفر؛ بل كشفت عن طبقات أعمق من التعقيد السياسي والإنساني تحيط بقطاع غزة في لحظته الأكثر هشاشة منذ النكبة. لقد أدركت جنوب أفريقيا ، الدولة التي تقود معركة قانونية عالمية ضد نظام الأبرتهايد الإسرائيلي ، أنّ عليها التأني في التعامل مع رحلات الإجلاء “الإنسانية”، لأن بعضها قد يتحوّل، بوعي أو دون وعي، إلى جزء من خطة التهجير الناعم التي يسعى اليمين الصهيوني إلى فرضها تاريخيًا.
فالتصريحات الرسمية الجنوب أفريقية حول “عدم وجود أختام مغادرة”، و”الاشتباه بملابسات التنظيم”، و”ضرورة التحقق من الجهات الراعية للرحلة”، ليست مجرد مسائل تقنية، بل تعكس خشية حقيقية من أن تتحوّل جنوب أفريقيا نفسها إلى منصة تُستغل لشرعنة إخراج الفلسطينيين من وطنهم تحت غطاء المعاناة والدمار.
وليس خافيًا أن من تولّى تنظيم الرحلة ( مؤسسة “وقف الواقفين” ) قد أثار تساؤلات داخل الدولة المضيفة، خصوصًا بعد الكشف عن أن بعض الركاب دفعوا مبالغ مرتفعة تصل من 1500 دولار إلى خمسة آلاف دولار للفرد.
هنا تتجلى المعضلة الأخلاقية: حين تصبح آلام الغزيين مادة للتسويق، وحين يتسلّل رأس المال إلى جراح الناس، تقترب الإنسانية من أن تتحول إلى ممر للتهجير المقنّع.
لكن هذه الحلقة الصغيرة لا يمكن فصلها عن المشهد الأكبر: مشروع اليمين الصهيوني لتنفيذ التهجير الشامل للفلسطينيين، وهو مشروع قديم/جديد يتجدد في كل حرب، ويتلقّى في السنوات الأخيرة قوة دفع إضافية من شخصيات إسرائيلية نافذة مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ومن أطراف الصهيونية الدينية ، الذين يدعون صراحة ، بل علنًا—إلى “إعادة توطين” سكان غزة في الخارج، وإلى “تشجيع” الفلسطينيين على مغادرة الضفة الغربية من خلال الضغط والحصار وخلق بيئة طاردة للحياة.
هذا المشروع لم يعد سرًا، ولا مجرد “نزعة يمينية”؛ إنه سياسة مكتملة يتبنّاها اليوم جزء مؤثر من الحكومة الإسرائيلية، وتُطرح على شكل خطط مكتوبة، وتصريحات رسمية، ودراسات ديموغرافية، ومداولات داخلية “تبحث” في أعداد الفلسطينيين الممكن إخراجهم وأفضل الوجهات لاستقبالهم.
لكن الخطير في الأمر أن شعارات حماس وسياساتها الأحادية—مهما كانت دوافعها—تشكّل عمليًا مادة خامًا يستغلها اليمين الصهيوني في تبرير مشروعه. فحين تُقدّم غزة للعالم على أنها “كيان مقاومة خارج الدولة الفلسطينية”، وحين تُختزل القضية في خطاب فصائلي مسلح منفصل عن المشروع الوطني، فإن إسرائيل تجد في ذلك الذريعة المثالية لتقول للعالم: “لا يوجد شريك فلسطيني، ولا توجد دولة فلسطينية، وبالتالي لا مانع من إعادة صياغة الواقع الديموغرافي بالقوة أو بالترحيل”.
لقد وفرت حماس، من حيث تدري أو لا تدري ، مناخًا سياسيًا وإعلاميًا مكملًا لمشروع اليمين الصهيوني يتمثل في :
تعطيل مؤسسات الدولة الواحدة في غزة.
تقويض وحدة التمثيل الفلسطيني.
حروب دورية تُغرق القطاع في الدمار واليأس.
صورة دولية تُقدّم غزة كفضاء مسلح خارج الشرعية الدولية.
هذه البيئة تُنتج نتيجة واحدة: فتح الباب للتهجير، سواء بالقصف أو بالحصار أو بالرحلات المنظمة تحت عنوان “النجاة”.
ورغم ذلك، فإن مسؤولية الجريمة الكبرى تبقى على عاتق الاحتلال وحده: الاحتلال الذي يحاصر غزة منذ ثمانية عشر عامًا، ويدمر بُناها، ويمنع عنها الماء والغذاء والدواء، ويحوّل كل أفق إلى ظلام ، الاحتلال الذي يريد أن يقول للعالم: “الفلسطينيون يغادرون بإرادتهم”. بينما الحقيقة أنهم يُدفعون دفعًا إلى مغادرة أرضهم هربًا من الموت.
إنّ جنوب أفريقيا، في محاولتها الحذرة للتعامل مع الرحلة الأخيرة، قدّمت درسًا مهمًا: مساعدة أهل غزة واجب، لكن حماية حق العودة واجب أكبر ، إنّ إنقاذ أرواح الفلسطينيين لا يجب أن يتحول إلى ممر لقتل قضيتهم.
ختاماً نقول :
إن مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية لن يتحقق ما لم يُستعاد المشروع الوطني الفلسطيني الجامع، وما لم تتوقف حماس عن تقديم “الهدايا السياسية” لليمين الصهيوني الذي لا يريد دولة فلسطينية ولا سلامًا ولا وجودًا فلسطينيًا أصلًا.
فلسطين لا تُحمى بالشعارات، بل بوحدة الشعب، ووحدة التمثيل، وبإعادة الاعتبار للقضية كقضية تحرر وطني وحق تاريخي لا يسقط بالحصار ولا بالتهجير ولا بالرحلات المسروقة من جراح الناس.
د. عبد الرحيم جاموس
الرياض / السبت
15/11/2025 م







