حتى لا نقسو على بعضنا

عبد الغني سلامة

مثل أعياد كثيرة سابقة، أتى العيد حزيناً وكئيباً، مع أنَّه يُفترض به أن يحمل معاني كثيرة؛ ألعاب الأطفال، ومراجيحهم، وملابسهم الجديدة، وتذكر الغائبين، وصلة الرحم، ولمة العيلة، والكعك، وصلاة العيد..إلخ، لكن أهلنا في غزة حُرموا من كل هذه الأشياء، بل حُرموا طعم الحياة.
بدأ هذا الصيف بموجات حر شديدة، وبالرغم من توفر المراوح والمكيفات والآيس كريم إلا أننا نعاني وننزعج وبالكاد يطيق الفرد نفسه، فما بالك بمن يعيش في خيمة تتحول إلى فرن، دون مراوح، ولا حتى كهرباء، أو مياه باردة.. بين أكوام الردم والنفايات والحشرات من كل نوع، كيف سيكون حال أهلنا في غزة في ظل هذه الظروف غير الآدمية، والتي فوق طاقة البشر على التحمل!
يحاول بعض وسائل الإعلام (رؤيا مثلا) تجميل هذا الواقع البائس، من خلال التقاط مشاهد معينة تظهر مدى تكيف الناس مع ظروف الحرب القاهرة، والإيحاء بأن أهل غزة خارقون لقوانين الطبيعة، ولديهم قدرة فائقة على الصمود والتحدي! ولا أدري هل هذا يفيدهم بشيء؟ أم يزيد ويطيل من معاناتهم!
أقيم في مخيم جباليا حفل زاوج جماعي، يعتقد البعض أن هذا العرس أغاظ العدو، وأظهر للعالم مدى تمسك الفلسطينيين بالحياة، وأنهم رغم قهرهم قادرون على الفرح.. ربما يكون هذا صحيحاً، ولكني ما زلت أستغرب كيف يمكن لأي شخص أن يفكر بالزواج في ظل هذه الظروف؟ ليس لأن الزواج فكرة عظيمة ومقدسة وتوجب توفر شروط مادية ونفسية واجتماعية معينة، أقلها توفر بيت للزوجية، بل استغرابي نابع من فكرة إنجاب طفل بين الردم وتحت القصف، في الوقت الذي يعجز أبواه عن توفير “كاسة مي”، أو وجبة طعام!
فهل فكرة الزواج هي لإشباع غريزة جنسية؟ أم لمجرد الإنجاب؟ كيف سيتصرف الزوج إذا حان موعد الولادة، وليس هناك مستشفى أو عيادة أو طبيب؟ وماذا ستفعل الأم إذا لم تجد علبة حليب لرضيعها؟ وإذا نجا الطفل من كل احتمالات الموت، أين سيلعب؟ وأين سيكبر؟ وأي مدرسة سيدخل؟ وعشرات الأسئلة الأخرى التي تؤكد على مدى تخلف نظمنا الاجتماعية ونظرتها البدائية للزواج وتكوين عائلة.
هذا مرعب.. ألم يكن ممكناً تأجيل الموضوع قليلاً، ريثما تنقشع الغمّة؟ خاصة وأن العرسان في مقتبل العمر!
وبمناسبة الحديث عن الأعراس، ونحن في موسم التكاثر، وسنشهد هذا الصيف أعراساً كثيرة، بالنسبة لي (وهذه وجهة نظر شخصية) لا بأس في إقامة الأفراح، لأن هذه سُـنّة الحياة، ولكن، أخلاقياً على الأقل يجب مراعاة مشاعر المنكوبين في غزة، فلا داعي للسماعات والزفة ومظاهر الترف والفرح وكأننا في كوكب آخر، وما يجري في غزة لم يهز مشاعرنا، ولا يعنينا بشيء! هذا ليس مرعباً وحسب، بل سقوط أخلاقي وإنساني.
وبمناسبة الحديث عن “سنن الحياة” واستمرارية الحياة الطبيعية، نرى في مدن الضفة (وخاصة رام الله) الكثير من مظاهر الحياة السعيدة، أو الاعتيادية على الأقل، وأنا لست ضد السعادة والفرح وديمومة الحياة، ولا أرى خطأ في ارتياد المطاعم والكافيهات، وحتى المسابح، فمن شبه المؤكد أن هؤلاء يشعرون في أعماقهم بكل مآسي غزة، ويتألمون لألمها، ويحزنون لحزنها، وهم أساساً مستهدفون، وتحت النيران، ويعانون من ويلات الاحتلال وتعسفه وقهره، فما من بيت تقريباً إلا وبه شهيد أو أسير أو عانى مباشرة من ظلم الاحتلال.
ولكن، من شبه المؤكد أيضاً أن هناك فئة معينة (لا أعرف كم نسبتها) تعيش وهم المزرعة السعيدة، ومنفصلة عن الواقع، حتى أنهم لراحة بالهم لم يعودوا يسمعون نشرات الأخبار! يمارسون حياتهم بكل صخبها وترفها.. وهذه ليست ظاهرة مرعبة وحسب، أو مجرد سقوط أخلاقي، هؤلاء عار الشعب الفلسطيني.
لنأتِ إلى أهلنا خارج فلسطين، من فلسطينيين وعرب.. صار واضحاً أكثر من أي وقت مضى الانقسام الحاد في الرأي بين أهلنا في غزة، ومن هم خارجها، فأهل غزة ينتظرون على أحر من الجمر انتهاء الحرب، ويتوقون لأي هدنة، وبأي ثمن، وهذا موقف طبيعي وإنساني.. أغلبية من هم في الخارج لا يريدون توقف الحرب، ولا أي تهدئة إلا بشروط “الانتصار”.. طالما أن “تحريرها كلها قد بدأ”، وجيش الاحتلال خسر ثلث دباباته وآلياته، وستين ألف قتيل! والصراعات الداخلية ستؤدي إلى انهيار إسرائيل، والضغوط الدولية والتظاهرات ستجبرها على إيقاف عدوانها.. فلنصبر قليلاً فالنصر الإستراتيجي على الأبواب.
مع أنَّ وجهتي النظر لا تؤثران بشيء حقيقي وفعّال، وبصرف النظر عن صوابية أي منهما، وبعيداً عن المناكفات، أولاً لا يجوز الطعن بوطنية أحد، ولا التشكيك بدوافعه النبيلة، وثانياً: أن يقيم أحد في الخارج ويتنعم بالبيت والأمن والتكييف هذا لا يسلبه وطنيته، ولا يسلبه حقه في التعبير، وإن اختلفنا معهم في الرأي فهم بالتأكيد يحزنون ويتألمون لمصاب غزة، ويتوقون ليوم اندحار الاحتلال وهزيمة إسرائيل، ونيل الفلسطينيين حريتهم.. وحتى لو انقطعت عنهم الكهرباء، وفقدوا التكييف، وصاموا، وجاعوا وناموا في الخيام للتعبير عن تضامنهم مع غزة، فهذا كله لن يفيد أحداً بشيء، ولن يوقف العدوان، ولن يقوي المقاومة، ولن يدعّم صمود أهل غزة.
ولكن، ثمة فئات معينة من هؤلاء لا يعرفون معنى التضامن الإنساني، لا يشعرون حقيقة بمأساة غزة، لا يعرفون معنى أهوال الحرب، لا تعنيهم معاناة الناس، بل إن بعضهم غير مستعد للتضحية بتخليه عن الكوكاكولا! وهذا متوقَّع لأن الإنسان بطبعه أناني وغبي، أناني لأنه لا يتأثر إلا إذا اختبر التجربة بنفسه، وغبي لأنه لا يتعلم من تجارب الآخرين، ويجب أن يمر بنفسه بالتجربة.
يعتقدون أن الحرب مغامرة مثيرة، وشيء سهل يمكن العيش معه، هؤلاء لم يختبروا حرباً في حياتهم، عاشوا آخر سبعين سنة متفرجين ومراقبين للحروب التي تشتعل حولهم، كانوا يتضامنون مع طرف ما بالشعارات والأدعية، ثم يتكسبون من نتائج تلك الحروب.. يصفقون للحرب طالما أنها بعيدة، وهم في مأمن منها..
وكما كتب جورج أورويل في روايته “1984”: “كل التطبيل والدعايات للحرب، وكل الصراخ والكذب والكراهية، تأتي دائماً من الناس الذين لن يذهبوا إلى الحرب”.
هؤلاء ليسوا ظاهرة مرعبة وحسب، ولا مجرد سقوط أخلاقي، هؤلاء عار على الإنسانية.

شاهد أيضاً