في المشهد صورتان:
صورة الأعداد الهائلة من الضحايا التي خلفها العدوان الإسرائيلي على الشعبين الفلسطيني واللبناني مصحوبة بصور دمار لا سابق لها في التاريخ الحديث إلا تلك التي يستحضرها الإعلام من الحرب العالمية الثانية.
وصورة الصمود الأسطوري للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية ومعهما مسيرة العودة لعشرات ومئات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين لبيوتهم المدمرة في شمال غزة وجنوب لبنان.
الذين يركزون على الصورة الأولى يتحدثون عن هزيمة ويجاهرون بالقول: هل استحق طوفان الأقصى هذا الثمن؟
والذين يركزون على الصورة الثانية يقولون: هذه هي مشاهد العزة والكرامة؛ أرادوها نكبة ثانية فتحولت إلى كَي لوعيهم: الفلسطينيون واللبنانيون هنا ولن يرحلوا، وليرحل الاحتلال.
أيها السادة، لو كانت الهزيمة تُقاس بأعداد القتلى وعدد البيوت المدمرة، لكانت ألمانيا النازية هي المُنتصر في الحرب العالمية الثانية. ألمانيا خسرت 8 ملايين جندي ومدني، في حين خسر الاتحاد السوفييتي وحده 24 مليون جندي ومدني.
النصر والهزيمة يُقاسان بتحقيق الخصم لأهدافه، وبكسره لإرادة القتال لدى خصمه. فهل حققت دولة الاحتلال أهدافها؟ هل تمكنت من كسر إرادة القتال لدى المقاومة؟
في فلسطين كانت أهداف الاحتلال العلنية واضحة منذ اليوم الأول للحرب وهي تدمير المقاومة والقضاء عليها، إعادة المحتجزين الإسرائيليين من مدنيين وجنود دون مفاوضات، ومنع غزة من أن تشكل تهديداً مستقبلياً لدولة الاحتلال.
أما الأهداف غير المعلنة فكانت تهجير الفلسطينيين واستعادة قوة الردع لدولة الاحتلال التي خسرها يوم السابع من أكتوبر.
وفي لبنان كان الهدف تدمير حزب الله والقضاء عليه، ومنعه من أن يشكل خطراً مستقبلياً على سكان مستوطنات شمال إسرائيل.
هل حققت إسرائيل أياً من أهدافها؟
الجواب بكل تأكيد هو «لا» كبيرة. هي لم تحقق أياً من أهدافها لا في فلسطين ولا في لبنان.
هل يعني ذلك أن المقاومة انتصرت؟
الجواب هو أيضاً «لا» كبيرة لأن النصر يكون بتحرير الأرض وإنهاء الاحتلال. لكن المقاومة لا تنتصر بالضربات القاضية. المقاومة تنتصر بمراكمة النقاط، بِكَي وعي شعب دولة الاحتلال، بإجبارهم على تغيير قناعاتهم أن بإمكانهم الاستمرار في قَتلنا وكَسرنا والاستيلاء على أرضنا دون أن يكون لذلك مقابل كبير يدفعونه هم أيضاً حتى يصلوا للحظة الحقيقة التي يُقرِوا فيها أن أمنهم وسلامهم مرُتبط بأمن وسلامة وكرامة الشعب الذي يحتلونه.
عندما يصلون لهذه القناعة، ينتهي الاحتلال، وتتحرر الأرض، ويتحقق النصر.
لم نصل لتلك المرحلة بعد. لكن معركة طوفان الأقصى جعلتنا نقطع أميالاً طويلة في هذا الاتجاه، قربتنا كثيراً من هذا اليوم، وهو سيأتي دون أدنى شك، إذا ما استمرت هذه الروح لدى شعبنا ومقاومته، وإذا ما أحسنت القيادات السياسية الفلسطينية استغلال الفرصة التي وفرتها لها معركة طوفان الأقصى.
لا نريد أن نقارن مشاهد العزة والكرامة لعودة مئات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين إلى بيوتهم المدمرة في شمال غزة وجنوب لبنان في مسيرات حاشدة على الأقدام، بمشاهد الذل والانكسار التي حدثت العام 1948.
ولا نريد أن نقارن مشاهد خروج المقاومة إلى المنافي بعد حرب لبنان العام 1982 بمشاهد السيطرة على الأرض للمقاومة وتبادل الأسرى في شمال غزة الذي أرادته دولة الاحتلال منطقة عازلة وخالية من أهلها، فالصور تتحدث عن نفسها.
لا، لم تُهزم المقاومة. لكنها وضعتنا على الطريق الذي سيجلب النصر بتحرير الأرض وإنهاء الاحتلال.
دعونا نشاهد الصورة الأكبر.
لقد بينت معركة طوفان الأقصى للعالم أجمع أن لا سلام ولا استقرار في الشرق الأوسط دون حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية جوهره إنهاء الاحتلال.
وخلال خمسة عشر شهراً من القتال الدامي والصمود الأسطوري للمقاومة كانت الصورة الوحيدة التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية هي صورة الدولة المُجرمة التي تقتل الأطفال والنساء وتدمر البيوت والمستشفيات بلا هدف غير التطهير العرقي وإخضاع شعب يرفض الاحتلال.
وخلال خمسة عشر شهراً من القتال حاولت دولة الاحتلال استعادة صورة ردعها كقوة «غاشمة، كاسرة، غير مُقيدة بأي قوانين دولية»، لكنها كلما كانت تحاول أكثر باستخدام أكبر حجم من القنابل التي أنتجتها شريكتها في الحرب، الولايات المتحدة، كانت تغرق أكثر في وحل غزة وجنوب لبنان، وتقضي شيئاً فشيئاً على قوة ردعها.
تذكروا أن هذه الدولة التي سَوقت نفسها على أنها من سيحمي النظام العربي الرسمي من «الخطر الإيراني» لم يكن بإمكانها الصمود في هذه الحرب دون دعم الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا لها ودون مشاركة إقليمية في الدفاع عنها.
عن أي ردع يتحدث هؤلاء عندما يحتاجون إلى حماية الدول التي وعدوا بحمايتها أو بحماية مصالحها.
المقاومة لا يُمكن ردعها بالقوة لأنها نِتاج استخدام القوة. صحيح أن الاحتلال هو السبب المباشر لوجود المقاومة، لكن الاستخدام المُفرط للقوة هو ما يدفع العشرات والآلاف للالتحاق بالمقاومة لكسر الاحتلال وإلحاق الهزيمة به.
اليوم يطارد الكثير من دول العالم جنود الاحتلال وقيادات جيشه وساسته على جرائمهم التي ارتكبوها في غزة.
اليوم العالم بأسره يَعلم أن الدولة التي صورت نفسها على أنها «ضحية» وأنها «الديمقراطية» الوحيدة في الشرق الأوسط، هي دولة ارتكبت جريمة الإبادة وأن ديمقراطيتها كاذبة ومُزيفة.
نحن أقرب اليوم إلى إنهاء الاحتلال من أي يوم مضى في تاريخ القضية الفلسطينية. لكن ذلك مرهون بأداء القيادة السياسية الفلسطينية.
إذا تعاملت مع نتائج معركة طوفان الأقصى على أنها هزيمة، فالاحتلال سيأخذ بالسياسة ما لم يستطع أن يأخذه بالحرب، وستنتهي القضية الفلسطينية بصفقة القرن التي يروج لها الرئيس ترامب.
وإذا أدركت القيادة السياسية بأن معركة طوفان الأقصى قد أضعفت الاحتلال كثيراً وجعلت القضية الفلسطينية في قلب السياسات العالمية، فإنها بلا شك ستنتزع من الاحتلال وبالضغط العالمي وبقوة المقاومة ما لم تتمكن من الحصول عليه في اتفاقيات أوسلو، وهو إنهاء الاحتلال.
لكن البداية لتحقيق ذلك كانت وستبقى فلسطينية خالصة: وحدة قيادة الشعب الفلسطيني السياسية على أرضية التمسك بالحقوق، الحق في إنهاء الاحتلال كاملاً عن الأرض الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967 بما فيها القدس الشرقية، والحق في مقاومته إلى أن ينتهي.