نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” خبراً مفاده أن وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت أبلغ المسؤولين الأميركيين أنه لم يعد أمام إسرائيل سوى الخيار العسكري لإعادة مواطنيها إلى الشمال. وأضافت نقلاً عن مسؤول أميركي لم تكشف هويته أن “الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكشتاين توسّل نتنياهو عدم شن حرب على لبنان”. لكن الأهم في ما نقلته الصحيفة الأميركية الواسعة الاطلاع على شؤون البيت الأبيض والشرق الأوسط عن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أنه أبلغ كبار قادة البنتاغون قلقه الصريح من قرب انطلاق العملية البرية الإسرائيلية في لبنان.
ومن يتوقف قليلاً عند عملية “البيجر” التي وجهتها إسرائيل إلى “حزب الله” موقعة أكثر من 3500 ضحية في صفوفه وصفوف بيئته الحاضنة، يكتشف أن الحسابات الإسرائيلية تغيرت بشكل جذري، وأن الاستقرار الذي ينشده “حزب الله” عند قواعد الاشتباك السابقة لم يعد ممكناً. فالحرب المنخفضة الوتيرة التي يريدها الحزب المذكور وسيلة للمساهمة في استنزاف إسرائيل، ما عاد قادراً على التحكم بها، لاسيما أن الطرف الآخر انتقل مع عملية “البيجر”، وقبلها اغتيال القائد العسكري فؤاد شكر في قلب الضاحية الجنوبية، إلى مرحلة القرار بتوسيع الحرب إلى حد بعيد. قد لا يصل الأمر إلى الحرب المفتوحة، لكن يمكن أن تشتعل حرب كبيرة وخطيرة جداً في غضون الساعات القليلة المقبلة.
و”حزب الله” معني بقراءة الموقف الداخلي في إسرائيل. ولسوء حظه، فإن سلسلة الخلافات الكبيرة التي تعصف بالمجتمعين السياسي والشعبي الإسرائيليين اختفت في ما يتعلق بموضوع “حزب الله”. ثمة أكثرية في الرأي العام الإسرائيلي تؤيد حرباً حاسمة ضد “حزب الله”. فإضافة إلى صدمة عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أتت صدمة القوة والقدرات المتنامية لـ”حزب الله” عند المسافة صفر من الحدود الإسرائيلية لتعزز قناعة الجمهور الإسرائيلي على ضفتي الحياة السياسية، أي اليمين واليسار وبينهما الوسط، بأن لا مجال للتعايش مع سيف إيراني مُسلط فوق رأس الدولة العبرية. فبعد تجربة قطاع غزة وحركة “حماس” طرأ تحول بـ 360 درجة في مقاربة الإسرائيليين للخطر الآتي من لبنان، والذي كان خارج الرادار السياسي الداخلي منذ العام 2006، أي منذ آخر حرب كبيرة بين إسرائيل و”حزب الله”. ومن هنا خطورة الموقف الراهن، مع احتمال التدحرج سريعاً نحو حرب طاحنة بين إسرائيل والحزب المذكور سرعان ما ستصبح حرباً تدميرية للطرفين.
طبعاً، لا مجال للمقارنة بين قدرات إسرائيل وقدرات “حزب الله”. فإذا كان الحزب قادراً على إلحاق أذى كبير جداً بإسرائيل، فإن الأخيرة تمتلك ما يكفي من القوة والقدرات لسحق ذراع إيران في لبنان. بمعنى آخر، إن التوازن الذي يمكن للحزب أن يقيمه مع إسرائيل في حالة الحرب المنخفضة الوتيرة والعنف، يستحيل أن يحققه لمدة طويلة. فعدد الصواريخ التي يمتلكها، ونوعياتها، أكانت قديمة أم متقدمة لا يكفي للحؤول دون غلبة إسرائيل في حرب واسعة يمكن للأخيرة أن تستخدم فيها أسلحة دقيقة ذات قدرات تدميرية هائلة مثل مجموعة القنابل من طراز “أم كي” 81-82-83-84 وغيرها.
وإذا كان “حزب الله” ومن خلفه إيران يراهنان على عدم قدرة إسرائيل على خوض حروب طويلة، يكفي النظر إلى حرب غزة ومعها حروب الاستنزاف مع “حزب الله” ومحور “وحدة الساحات” وقد دامت حتى الآن ما يقرب من العام. فبعد “طوفان الأقصى” أصبحت حروب إسرائيل وجودية، وذلك بصرف النظر عن الصراعات السياسية المستشرية في الجسم السياسي. وقد يكون “حزب الله” ارتكب خطأ تاريخياً عندما بادر بقرار منفرد إلى شن حرب استنزاف ضد إسرائيل تحت مسمى “حرب الإسناد”، أرادها الحزب محدودة ومضبوطة الإيقاع لكيلا تنزلق الأمور إلى حرب واسعة. كان الحزب يسعى إلى التحكم بنمط المواجهة وحدودها، لكن الحسابات تغيرت، والطرف الأقوى عاد ليمسك بمفاتيح المواجهة، وصار الطرف المتحكم بها تهدئة أو تصعيداً. من هنا الإشكالية الكبيرة التي يواجهها الحزب المأزوم الذي اختبر في اليومين الماضيين نمطاً جديداً من الحروب التي لا تحتاج لاستخدام الصواريخ ولا حتى المسيرات الانقضاضية. والآن صار الحزب المذكور الطرف المتلقي الذي ينتظر أن يحدد الطرف الآخر نمط المواجهة ومستواها.
لكن مع ذلك يرفض “حزب الله” التراجع عن القرار المتهور بالتورط في حرب “الإسناد”، فترتفع نسبة الخطر التي يتعرض لها مع بيئته واستطراداً لبنان بمختلف مكوناته وفئاته. وعليه فإن عملية “البيجر” وبعدها عملية “الأجهزة اللاسلكية” تعكسان مدى خطورة الموقف. وهنا نعتقد أن الولايات المتحدة وبعدما يئست من إمكان اقناع “حزب الله” بإنهاء “حرب الإسناد”، أو بلورة موقف رسمي لبناني يعتد به يتمتع بقدرة على الضغط على “حزب الله”، لن تقف حائلاً أمام حرب إسرائيلية واسعة ضد “حزب الله” في لبنان، وستكتفي بمواقف تدعو إلى ضبط النفس وتجنب الحرب، لكنها ضمناً لن تعارض توجيه ضربة قاسية جداً إلى ذراع إيران في لبنان. فالأخيرة باتت تشكل خطراً على المصالح الأميركية أيضاً في وقت يصعب فيه التعايش بين مصالح الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ومعها إسرائيل (في الإقليم)، وذراع إيرانية تمتلك قدرات عسكرية وأمنية لا تمتلكها دول متوسطة. هذا ما يدفعنا إلى القول إن أكبر عدو لـ”حزب الله” هو الحجم الذي بلغه والدور الذي يلعبه كرأس حربة للمشروع الإيراني في الإقليم، وحجمه ودوره لا يمكن أن يستمرا من دون أن يتسببا بقلق يتجاوز لبنان إلى الإقليم وربما إلى المجتمع الدولي.
من الصعب حماية “حزب الله” بحالته الراهنة. حجمه ودوره أكبر من أن يندرجا بشكل طبيعي ضمن معادلة الأمن الإقليمي الذي يقوم نهاية الأمر على مصالح القوى الكبرى من ناحية، والدول الوطنية في الإقليم من ناحية أخرى. ففي نهاية الأمر لا يمكن أن يستمر “حزب الله” بهذه الصيغة المنفلتة من كل الضوابط ضمن الدولة الوطنية. كما أن نفوذ إيران سيبقى لكنه لن يدوم بحالته الراهنة عنصراً مهدداً للاستقرار الإقليمي إلى ما لا نهاية. كل هذا لنقول إن الاختبار الحالي الذي تمثله تجربة “حزب لله” في ما يسمى “حرب الإسناد ” لغزة وحركة “حماس” قد يكون هو مقتل للحزب بحجمه ودوره الحاليين.
إن نشوب حرب واسعة بين إسرائيل و”حزب الله” إن حصل لن يكون سببه الوحيد تورط الحزب في المغامرة والمقامرة الحالية، إنما أكثر ما أشرنا إليه آنفا الحجم والدور في زمن إعادة رسم خرائط جديدة في المنطقة.
إذاً، الأمر لا يتعلق بشدة البأس والشجاعة في الميدان، بل بأمور أخرى. وعلى “حزب الله” أن يعرف أن الحرب التي نتحدث عنها متى نشبت لن تكون شبيهة بالحرب في سوريا. فقد انتصر إلى حد معين في سوريا بعدما كلفت روسيا بموافقة أميركية بالتدخل بكل الوسائل المتاحة وبلا رقابة على “التفاصيل” ذات الصلة بالوضع الإنساني. لذلك من المهم بمكان أن يتواضع الحزب المذكور، فالتحدي الحالي ليس مواجهة رهط من الزعامات اللبنانية المحلية الضيقة الأفق، إنما دول كبرى وقوى إقليمية تتقاطع مصالحها حول هدف إنهاء ظاهرة تنتمي إلى مرحلة مضت.
* نقلا عن ” النهار”