في ظل التصعيد المستمر بين إسرائيل وإيران، لم يعد الصراع محصورًا في الأبعاد العسكرية أو النووية، بل بات يعكس تحوّلاً أعمق في بنية النظام الإقليمي، حيث تُستخدم التهديدات الأمنية كغطاء لصراع جيوسياسي أوسع هدفه إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وتوسيع نطاق النفوذ الإسرائيلي ضمن منظومة تحالفات جديدة تتقاطع فيها مصالح القوى العالمية والإقليمية.
النظام الناشئ في المنطقة لا يقوم فقط على موازين الردع العسكرية، بل على هندسة دقيقة للطرق التجارية والتحالفات الاقتصادية، تقوده الصين بهدوء استراتيجي، وتسعى من خلاله إلى كسر الهيمنة الغربية على معابر التجارة والطاقة. لكن هذه الهندسة لا تمر عبر فراغ جغرافي أو سياسي؛ بل تمر عبر إعادة تعريف الحدود، والسيادة، والأدوار.
في هذا السياق، يبرز المشروع الصيني الطموح “الحزام والطريق” كأداة لإعادة تشكيل الجغرافيا السياسية والاقتصادية، من خلال ربط الشرق بالصين عبر ممرات برية تمر بإيران، والعراق، والأردن، وإسرائيل، وصولاً إلى موانئ المتوسط. هذا الربط يضع إسرائيل في قلب المشهد الجديد، لا بوصفها مجرد نقطة عبور، بل كمركز إقليمي تتقاطع عنده المصالح الصينية والغربية، ما يمنحها قوة مضاعفة تتجاوز حدودها المعترف بها دوليًا.
توسيع حدود إسرائيل في هذا السياق لا يقتصر على الاستيطان أو الهيمنة الأمنية، بل يتم عبر آليات أكثر نعومة، كفرض السيطرة على خطوط النقل والتجارة والطاقة في المنطقة، ما يعني تقليص سيادة دول الجوار فعليًا، حتى وإن بقيت الحدود الرسمية على حالها. فحين تتحول إسرائيل إلى عقدة لوجستية تربط الصين والخليج مروراً بالمتوسط وأوروبا إلى الأمريكيتين، وحين تُستثنى دول كالعراق وسوريا من مشاريع العبور، أو يُهمّش دور مصر عبر إضعاف قناة السويس، فإننا عمليًا أمام خريطة جديدة.
تترافق هذه التحولات مع تحالفات صينية مع إيران وباكستان، تسعى من خلالها بكين إلى حماية طرقها التجارية، وتأمين تدفق الطاقة والبضائع، وكسب نفوذ تفاوضي أمام محاولات واشنطن لإعادة هيكلة سلاسل الإمداد العالمية بعيدًا عن الصين. لكن هذا الصراع الاقتصادي ليس معزولًا عن أبعاده الأمنية، بل يتغذى على التوترات النووية والإقليمية، التي تُستخدم كأدوات لتبرير تعزيز الانتشار، وإعادة توزيع النفوذ.
أما مصر، فهي من أبرز المتضررين من هذا التحول. فالمشروع الجديد يهدف عمليًا إلى تجاوز قناة السويس واستبدالها كممر رئيسي، مما يهدد مكانة مصر الجيوسياسية ويُضعف قدرتها على التأثير الإقليمي. والمفارقة أن هذا التهميش يتم من دون مواجهة مباشرة، بل عبر إعادة توجيه التدفقات التجارية والمالية بما يخدم النظام الجديد الذي تُطوِّقه الصين اقتصاديًا، وتُرسي قواعده إسرائيل جغرافيًا.
في المقابل، تموضع باكستان ضمن المحور الصيني يعزز من دورها كممر حيوي ضمن “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني”، لكنها في الوقت ذاته تنخرط ضمن نظام تهيمن عليه توازنات أكبر منها، وتجد نفسها مجبرة على التكيف مع أجندة لا تملك كامل مفاتيحها.
ورغم تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، يبقى خيار الحرب الشاملة مستبعدًا، في ظل تشابك المصالح الاقتصادية بين القوى الكبرى، خصوصًا الصين والولايات المتحدة. ما يجري في الواقع هو حرب مركبة غير تقليدية، تُستخدم فيها الأدوات الاقتصادية والتكنولوجية والرمزية لإعادة توزيع السيادة.
إننا أمام شرق أوسط يُعاد رسمه بمعابر لا بخنادق، وبمراكز شحن لا دبابات، حيث تتقدم إسرائيل لتصبح مركزًا لوجستيًا واقتصاديًا إقليميًا على حساب جيرانها، وتتحوّل التهديدات النووية إلى ذريعة لتبرير معادلات نفوذ جديدة تُهمّش فيها الدول التي فشلت في إعادة تعريف مكانتها ضمن هذا النظام الجديد.