السياسي – يَحكم بنيامين نتنياهو اليوم تحت ضغوط غير مسبوقة، فهو يواجه احتجاجات متزايدة، ودعما دوليا متضائلا، وتدقيقا قانونيا، وائتلافا حكوميا قد ينهار في أي لحظة. وفي ظل هذه الخلفية، أصبحت الحرب في غزة الركيزة الأساسية لبقائه السياسي. أصبح السخط الشعبي الآن واضحا في الشوارع كل أسبوع، حيث اجتاحت المظاهرات التي يشارك فيها مئات آلاف الإسرائيليين المدن الكبرى. وتَقود عائلات المحتجزين العديد من هذه المسيرات، متهمة الحكومة بالإهمال والفشل. ورغم أن نتنياهو قد استخف بالاحتجاجات معتبرا إياها ضارة بالمفاوضات، إلا أن الأعداد المتزايدة توضح أن الغضب الشعبي قد وصل إلى مستوى لم يشهده منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
تُضيف الجهود الدبلوماسية طبقة أخرى من التعقيد. فقد أعلنت حركة حماس مؤخرا قبولها لمقترح هدنة لمدة 60 يوما، بوساطة مصرية وقطرية وبدعم من الولايات المتحدة. وتشمل الخطة إفراجا جزئيا عن الاسرى، وتبادل أسرى، وانسحابا محدودا للقوات الإسرائيلية، وإدخال المزيد من المساعدات إلى غزة. وحتى الآن، أبدت إسرائيل حذرا، فلم ترفض الصفقة ولم تقبلها، لكن بالنسبة لنتنياهو، فإن أي خطوة نحو وقف إطلاق النار تخاطر بتقويض صورته كمتشدد وقد تؤدي إلى تفكك ائتلافه من الداخل.
لقد رسم شركاء اليمين المتطرف في الحكومة، بقيادة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، خطوطهم الحمراء بالفعل؛ فهم يرفضون أي تسوية لا تحقق الهزيمة الكاملة لحماس، ويهددون بإسقاط الائتلاف إذا ما قدم نتنياهو تنازلات. ومنذ استقالة بيني غانتس في حزيران/ يونيو 2024، مالت الحكومة أكثر نحو اليمين، مما جعل نتنياهو أكثر اعتمادا على هؤلاء الشركاء ومطالبهم.
الدعوات الإنسانية والمساءلة الدولية
في غضون ذلك، تعاني غزة من خسائر بشرية مدمرة، إذ تُشير وزارة الصحة في القطاع إلى مقتل أكثر من 62,000 شخص منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023. كما تحذر الوكالات الدولية من مجاعة، مع مستويات مقلقة من سوء تغذية الأطفال. ورغم أن إسرائيل تشكك في بعض الأرقام، فإن صور الضحايا والمجاعة تهيمن على التغطية الإعلامية العالمية، وتُغذي الاتهامات بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.
لم تبت محكمة العدل الدولية بعد في تهمة الإبادة الجماعية نفسها، لكنها أصدرت أوامر ملزمة تطالب إسرائيل بمنع أعمال الإبادة والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، مما يعزز تسليط الضوء الدولي على الحكومة. وتمتد الضغوط القانونية إلى أبعد من ذلك، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، متهمة إياهما بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. هذه المذكرات تحد من حرية حركة نتنياهو في الخارج وتكثف من اعتماده على سيطرته الداخلية.
حسابات البقاء السياسي
من دون إعلان “نصر” واضح، فإن نهاية الحرب ستُعرّض نتنياهو لمطالب متزايدة بالمساءلة وربما لإجراء انتخابات. وفي الوقت نفسه، بدأت تظهر على الحليف الأهم لإسرائيل، الولايات المتحدة، علامات الإرهاق. فقد تحول الرأي العام الأمريكي بشكل حاد، مع انخفاض الدعم للحرب إلى مستويات تاريخية، كما أن شعبية نتنياهو الشخصية في استطلاعات الرأي الأمريكية سلبية أيضا. وبالنسبة لإسرائيل، التي تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري والدبلوماسي الأمريكي، فإن هذا التآكل في التعاطف يرفع تكلفة مواصلة الحرب.
وعلى الصعيد المحلي، تتكشف أزمة أخرى؛ فقد أبطلت المحكمة العليا الإسرائيلية الإعفاءات الشاملة من الخدمة العسكرية للطائفة الأرثوذكسية المتشددة (الحريديم). ويحتاج نتنياهو إلى دعم أحزاب الحريديم للبقاء سياسيا، تماما كما يعتمد على حلفائه من اليمين المتطرف الذين يطالبون باستمرار الحرب حتى تدمير حماس. إن أي وقف حاسم لإطلاق النار قد يثير صراعات على كلتا الجبهتين: نزاعات حول التجنيد، وأولويات الميزانية، والسؤال الذي لم يُحسم بعد حول مستقبل غزة، ومن خلال إبقاء الحرب “مفتوحة”، يؤجل نتنياهو هذه المواجهات.
ضمن هذا الإطار يرتكز بقاؤه على عدة دعائم:
أولا، الحرب تُعلّق المساءلة: يصبح من الأسهل تأجيل التحقيقات في إخفاقات السابع من أكتوبر أو في اتهامات الفساد طالما أن القتال يهيمن على جدول الأعمال.
ثانيا، الحرب تؤمّن ائتلافه: لقد ربط بن غفير وسموتريتش مصيرهما السياسي بمطلب تدمير حماس، ولا يستطيع نتنياهو إقصاءهما دون المخاطرة بانهيار حكومته.
ثالثا، الحرب تُحوّر السردية القانونية: فطالما استمر القتال، يمكن تصوير مذكرات الاعتقال والأوامر القضائية الدولية على أنها هجمات خارجية على سيادة إسرائيل. أما في وقت السلم، فستبدو كمسؤوليات شخصية.
رابعا، الحرب تُقسّم المعارضة: فبينما يطالب بعض الإسرائيليين بصفقة فورية لإعادة الاسرى، يصر آخرون على مواصلة القتال، وهذا الانقسام يضعف الجهود الرامية لتوحيد الصفوف ضد نتنياهو.
خامسا، الحرب تُهمّش التحديات الداخلية: تتراجع قضايا مثل ارتفاع تكاليف المعيشة وأزمة التجنيد والنزاعات الحكومية إلى الخلفية، بينما يهيمن الصراع على النقاش الداخلي.
هذه الحسابات هي التي تشكل استجابة نتنياهو لأحدث مقترحات وقف إطلاق النار، فهو يُبدي انفتاحا على المحادثات لكنه يرفقها بشروط ترفضها حماس، مثل: نزع سلاح الحركة، ونفي قيادتها، ونزع السلاح بالكامل من غزة. مثل هذه الشروط تجعله متوافقا مع شركائه من اليمين المتطرف، وتؤخر أي هدنة دائمة، وتضمن استمرار الحرب في دورات من الهدوء المؤقت تليها هجمات جديدة. من الناحية السياسية، يُعد الجمود بالنسبة له أكثر أمانا من التسوية.
ويرى المنتقدون أن هذه الديناميكية تربط بقاء نتنياهو مباشرة بالدمار في غزة، مشيرين إلى العدد الهائل للضحايا والانهيار الإنساني والقضايا المرفوعة أمام المحاكم الدولية؛ كدليل على أن إطالة أمد الحرب تخدم مصالحه السياسية. وسواء حكمت محكمة العدل الدولية في نهاية المطاف بشأن ادعاء الإبادة الجماعية أم لا، فإن الادعاء في حد ذاته يغذي الغضب الدولي ويدعم الحجة القائلة بأن نتنياهو لا يستطيع تحمل تكاليف السلام.
مع ذلك، فإن استراتيجيته ليست بلا حدود، إذ بدأ صبر الجمهور في إسرائيل ينفد، وتمثل عائلات الاسرى صوتا قويا يتردد صداه في جميع أنحاء المجتمع. كما أن الحلفاء الدوليين يعيدون النظر في دعمهم. وإذا أصبح وقف إطلاق النار واسع النطاق هو السبيل الوحيد للاستقرار، فسيواجه نتنياهو معضلة قاسية: إما الحفاظ على ائتلافه على حساب إقصاء الجمهور، أو إنهاء الحرب والمخاطرة بالانهيار السياسي.
في الوقت الحالي، يعتمد بقاؤه على إطالة أمد حالة “ما بين بين”: قتال كافٍ لإرضاء اليمين، وتفاوض كافٍ لتخفيف الضغط من الوسط، وغموض كافٍ لتجنب الانتخابات. تظل الحرب في غزة هي المسرح الذي يلعب عليه نتنياهو لكسب الوقت، وطالما استمرت، استمرت قبضته على السلطة، فاليوم الذي تنتهي فيه قد يمثل بداية أكبر حساب سياسي له.
-ألطاف موتي