تُعدّ حرية الرأي والتعبير من أكثر الحقوق الإنسانية التصاقاً بجوهر الكرامة البشرية، فهي ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الذات، بل أداة لتشكيل الوعي الجمعي، وممارسة النقد، وصياغة البدائل التي تحرّك عجلة التاريخ. وقد اعترفت بها المواثيق الدولية الكبرى، من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، حيث نصّت المادة 19 على حق الإنسان في اعتناق الآراء دون مضايقة، والتمتع بحرية التماس المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها، عبر أي وسيط يختاره، متجاوزة بذلك حدود الزمان والمكان.
لكن هذا الحق، على سموّه، ليس مطلقاً في أي نظام قانوني أو اجتماعي؛ فهو يخضع لقيود موضوعية حين يتعارض مع حقوق الآخرين أو سمعتهم، أو مع ضرورات حماية الأمن القومي، والنظام العام، والصحة العامة، والآداب العامة. فحرية التعبير، ككل الحريات، تقف دائماً على تخوم مسؤولية مزدوجة: مسؤولية الذات تجاه الحقيقة، ومسؤوليتها تجاه الآخر.
في السياق المعاصر، حيث شبكات التواصل العابر للحدود، ووسائط الإعلام الفوري، صارت قادرة على نشر الأفكار والصور والرموز إلى ملايين البشر في لحظات، تحوّلت حرية التعبير من شأن محلي إلى قضية كونية، محكومة بتعدد المرجعيات الثقافية والدينية والسياسية. وتتصاعد الإشكالية حين تتماس هذه الحرية مع المقدسات والمعتقدات الدينية، إذ يصبح التوتر بين الحق في النقد والواجب في الاحترام أكثر حدّة.
لقد كشفت أحداث السنوات الأخيرة، ومنها الجدل حول الرسوم المسيئة للرسول ﷺ في فرنسا، عن صعوبة الموازنة بين الدفاع عن حرية الرأي وبين حماية مشاعر الجماعات الدينية من الاستفزاز أو الإهانة. فبينما يرى أنصار “الحرية المطلقة” أن لا حدود لحق التعبير سوى القانون الوضعي، يحذّر آخرون، ومنهم فلاسفة ومفكرون بارزون كلوك فيري، من أن التعليم على الحرية لا يبرّر الإساءة أو الإباحة المتطرفة، وأن احترام الكرامة الإنسانية يفرض حدّاً أدنى من التحفّظ، لتفادي إشعال الصراعات المجتمعية.
وفي المقابل، يطرح مفكرون مثل هنري بينا-رويز سؤالاً جوهرياً: هل يمكن للدولة المدنية أن تعتبر ما يراه أتباع ديانةٍ إساءةً جريمةً، من دون أن تفقد حيادها إزاء مواطنيها متعددي المعتقدات؟ وهل يمكن أن يكون الدفاع عن حرية التجديف موقفاً محايداً في مجتمع متنوع، أم أنه في حد ذاته انحياز لقيم ثقافية بعينها؟
إن التجربة التاريخية، من محاكم التفتيش في إسبانيا إلى حروب الهوية في عالم اليوم، تؤكد أن حرية التعبير حين تنفصل عن أخلاقيات الاحترام المتبادل قد تتحول من جسر للتواصل إلى أداة لهدم السلم الأهلي. ومن ثم، فإن المعضلة الفلسفية هنا ليست في إقرار الحق، بل في تحديد حدوده، بحيث لا يتحوّل إلى غطاء للفوضى أو للعنف الرمزي الذي يفتت النسيج المجتمعي.
فالحرية، في بعدها الفلسفي، ليست نقيضاً للمسؤولية، بل هي رهينة بها؛ ومتى انفصلت عنها، فقدت معناها الإنساني العميق، وأضحت مجرد ذريعة لتبرير القوة أو فرض الرأي. وبين مطلق الفكرة وحدود الاحترام، يبقى التحدي الأكبر هو إيجاد الصيغة التي تصون كرامة الإنسان في ذاته وفي معتقده، وتضمن في الوقت نفسه فضاءً عاماً حراً، قادراً على احتضان التعددية من دون أن ينفجر بتناقضاتها.
