حزب البعث ما بين العفلقيّة والسلفيّة.

د. عنان عويّد

دراسة تحليلية لفكر ومسيرة حزب البعث سأقوم بعرضها هنا على حلقات, آمل أن تجد حضورها عند من عاش تجربة البعث في سورية بشكل خاص.

الحلقة الأولى:

 

( إن أصدق مرآة للنفس الإنسانيّة هي الأعمال, ولا أكتمك أنني كلما فكرت أنني سأكرس نفسي للكتابة أخجل في داخلي وأحتقر نفسي نوعاً ما, لأن الكتابة ليست غايتي العميقة, بل أنظر إليها

دائماً كأنها شاهد عن عجزي عن العمل ودليل نقصي.)

مشيل عفلق

بهذا الموقف المنهجي الذي يقطع فيه عفلق الفكر عن الممارسة, ساد عند الكثير من البعثيين الموقف ذاته من الفكر ودوره في إغناء الحياة النضاليّة للحزب, على اعتبار أن هناك علاقةً جدليةً ذات تأثير متبادل بين الفكر والممارسة, فكلاهما يغنيان ويكملان بعضهما بعضاً في النشاط الحياتي للفرد والمجتمع بشكل عام, وللأحزاب التي تدعي الثوريّة كحزب البعث من جهة ثانية. وبناء على هذا الموقف المعادي للفكر, والتركيز على الممارسة في المنهج النضالي للبعث كما أراده عفلق, جاء نضال البعث في مسيرة نضاله الطويلة كما سيمر معنا, قائماً على السير في خطى المناهج الفكريّة القائمة على مبدأ أو منطلق الروحانيّة والإيمانيّة المشبعة بالارتجاليّة والكسل العقلي والذاتيّة والثرثرة الثوريّة والسطحيّة, وقد ساهم هذا الموقف المنهجي المثالي الذات واللاأدري في تكريس روح الأيديولوجيّا (التلفيقيّة) وخاصة ما بين مفهومي الأصالة والمعاصرة, حيث أن الكثير من البعثيين فهموا الأصالة في شقها الماضوي السلفي كقيم تراثية أصيلة, شكلت المنبع الثر لقيم البعثي, ومحاولته العمل دائماً على بعث هذه القيم من جديد على اعتبارها  بالتالي هي وحدها الحقيقة الغائبة, والتي باسترجاعها والاتكاء عليها ستعيد للعرب كرامتهم المهدورة ونهضتهم المفوته حضاريّاً وفي مقدمتها تطلعاتهم القوميّة, في بناء وحدة الأمّة وتحقيق حريتها وعدالتها, وتخليصها من الاستعمار والاستغلال, وتنميتها لبناء مستقبل يضع لها مكانتها التي تستحقها بين الأمم بعد أن فقدتها تاريخيّاً. ونظراً لقوة هذا الموقف الأيديولوجي الماضوي المتأخر كثيراً عن روح العصر, وهو الموقف السائد, أو المتجذر أصلاً في عقلية الكثير من أبناء هذه الأمّة المشبعة بالثقافة الشفويّة الفقهيّة بروحها السلفيّة, وبالرغم من الشعارات أو الأهداف الثوريّة التي طرحها الحزب على نفسه لقيادة نضال هذه الأمّة المفوّته حضاريّاً نحو نهضتها, وهي (الوحدة والحريّة والاشتراكيّة), ظلت أيديولوجيا الجمود والتحجر هي السائدة في عقلية قسم كبير من البعثيين حتى مع إقرار المنطلقات النظريّة للحزب في المؤتمر القومي السادس عام /1963/, بكل ما تحمله هذه المنطلقات النظريّة من رؤى ومواقف فكريّة عقلانيّة تقوم على العلميّة والثوريّة, ورفض الاستسلاميّة العلميّة, وحتى بعد تطبيق الكثير من مضمونها أثناء استلام تيار حركة /23 شباط 1966/  السلطة, استمرت العقلية الماضويّة سائدة في فكر وعقلية معظم البعثيين, حيث ظل البعثيون كغيرهم يعيشون زمناً غير زمنهم من حيث رؤيتهم للكون والطبيعة والتاريخ والمجتمع والدولة والإنسان, مع استمراريّة العقليّة الإيمانيّة القائمة على التقوى والطاعة والامتثال والتصديق والرضا والتسليم والقناعة وضعف الإنسان وعجزه أمام قوى الطبيعة والغيب والقدر, هذا إضافة إلى قناعاتهم بأن ما قرره السلف الصالح من حقائق تاريخيّة ستظل صالحة لكل زمان ومكان, وبالتالي تجد الكثير من البعثيين يفتخرون بشافعيتهم وحنبليتهم وسلفيتهم … وغير ذلك من مرجعيات تقليديّة ما ضوية أكثر من افتخارهم بانتمائهم لعقيدة البعث.  فموقف البعثي من الماضي وضرورة استحضاره دائماً, هو موقف ثابت في عقيدته وبنيته الفكريّة (الرسالة الخالدة), على أنه – أي الماضي – وحده القادر على تحقيق كرامتنا وانسانيتنا ونهضتنا وتجاوزنا لتخلفنا. وهم هنا لا يختلفون في موقفهم من الماضي عن العقليّة السلفيّة الدينيّة التي تقول أيضاً: كلما ابتعد الناس عن تاريخ السلف, كلما تلوثت حياتنا وسادتها البدعة والضلالة, وبالتالي فإن الابتعاد عنه هو سبب بلاء هذه الأمّة ومصائبها, ولن يصلح حاضر هذه الأمّة إلا بما صلح أولها.

إن هذه العقليّة الماضويّة التي لم يستطع البعث في كل مراحل تاريخه النضالي أن يتجاوزها أو يستبدلها حتى بعد تبنيه الفكر العقلاني التنويري الذي حدد سماته بالعلميّة والثوريّة في منطلقاته النظريّة. قد أثبتت الأيام بأنه الفكر الأقوى والأكثر سيادة وتجذراً في نفسيّة وعقليّة البعثين وسلوكياتهم قبل غيرهم حتى هذا التاريخ, (فصائل النقشبندية في العراق, والكثير من البعثين في السورية الذين التحقوا بداعش والنصرة ومعظم الفصائل التي حملت السلاح ضد الدولة تشكل أنموذجاً ساطعاً على ذلك). لا سيما وأن الفهم العاطفي والسكوني لدلالات شعار (الرسالة الخالدة) ظل مهيمناً على عقليّة البعثيين الماضويّة, بدلاً من استلهام هذا الشعار من خلال ربطه جدليّاً بين مفهومي الأصالة والمعاصرة.

بعيداً عن الدخول في تفاصيل تاريخ نشوء حزب البعث ونضالاته في مرحلة الصراع على سورية بعد تشكل نواته الأولى مع بداية العقد الخامس من القرن الماضي, عام 1943 من قبل (مشيل عفلق والبيطار) بعد قدومهما من فرنسا عام 1934, وطرح ما تأثرا به من أفكار الاشتراكيّة الدوليّة الأوربيّة, ممثلة بأفكار “أندريه جيد, ورومان رولان” المشبعة بالروح الفرديّة التي تأثر بها عفلق نفسه, أكثر من تمسكهما بالروح الجماعيّة, وبالرغم من تأثرهما إلى حد ما باالمنهج المادي للماركسيّة, إلا أنهما كان أقرب إلى بما يسمى الاشتراكيّة الدوليّة. بيد أن هذا التأثر بالماركسية لم يكن في حقيقة أمره إلا شكليّاً, الأمر الذي دفعهما, كما دفع “مشيل عفلق” إلى القول بأن الماركسية ليست أكثر من: (طريقة في الحياة, أو علاج ميتافيزيقي يضع حداً للحرب والاستقلال), وبالتالي هي ليست منهج عمل قادر على رسم الكثير من الحلول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة للمجتمعات وتخليصها من عوامل استغلالها وغربتها وظلمها الطبقي أو الاستعماري, أو هي ليست منهجاً يعمل على كشف القوانين الموضوعيّة والذاتيّة لحياة الطبيعة والإنسان وبالتالي القدرة على تسخير هذه القوانين لمصلحة الإنسان الماديّة والروحيّة معاً. وبعيداً أيضاً عن استقالة عفلق والبيطار من التدريس في وزارة التربية والتعليم السوريّة عام 1943, من أجل التفرغ لقيادة الحزب, دون معرفة من كان الممول لهذا الحزب, على اعتبار أن أكثر أعضائه من الطلاب (المغلسين ماديّا), آنذاك, مع الإشارة طبعاً إلى أنهما استطاعا أن يفتحا فروعاً للحزب في الأردن والعراق, المسيطر عليهما من البيت الهاشمي, وهو البيت الذي كان يناضل “جلال السيد” أحد أعضاء اللجنة التنفيذيّة الخمسة التي تشكلت بعد المؤتمر التأسيسي الأول عام 1947, من أجل ضم سورية إلى حلفه.

إن كل الذي يهمنا حقيقة في هذه الدراسة المتواضعة هنا, هو تقديم رؤية نقديّة لفكر الحزب ومؤسسه الذي كان قريباً في اطروحاته التي غلب عليها المسخ الأيديولوجي والثرثرة الثوريّة, مروراً بقيام المؤتمر القومي السادس عام 1963, الذي خرج من عباءته الفضفاضة طبقيّاً وأيديولوجيّاً ما سمي بالمنطلقات النظريّة للحزب, هذه المنطلقات التي ظل الصراع الطبقي والأيديولوجي داخل تنظيم الحزب نفسه يدور حول قبول أو رفض مقدمتها التي أقرت بأن أيديولوجية الحزب تمتاز بسمتين أساسيتين هما: (العلميّة والثوريّة) حتى أقرها المؤتمر القومي السابع 1964, إلا أن كلا السمتين غيبتهما الممارسة وشهوة السلطة في سورية والعراق معا, حيث غُيب الكثير من منطلقات الفكر العقلانيّة التي قالت بها المنطلقات النظريّة فيما بعد, وأصبحت مستجدات الواقع وأزماته وتحديات السلطة الداخليّة والخارجيّة, تفرض على القيادات الحزبيّة الاستنقاع في التكتيك على حساب الاستراتيجيّة في سياسة الحزب من أجل استمراره أو استمرار قياداته في السلطة.

كاتب وباحث من سوريّا

تابعنا عبر:

شاهد أيضاً