خسر “حزب الله”، بشكل حاسم ونهائي، أقلّه منذ نفذت الحكومة الإسرائيلية في السادس من أيّار (مايو) الماضي، قرار الدخول إلى مدينة رفح، ما سمّاه حرب المساندة.
ولم تعد ثمة حاجة إلى تقديم الأدلة إلى أنّ تحويل “حزب الله” الحدود الجنوبية إلى “جبهة مساندة” لغزة، لم يقدم أو يؤخر، في أخذ إسرائيل الطريق الذي اعتبرته الأنسب لها.
في الواقع، الصعوبة الوحيدة التي واجهتها الحكومة الإسرائيلية، وتغلّبت عليها، جزئياً، كانت في تلك العوائق التي وضعتها الإدارة الأميركية، في إطار الضغوط المستمرة لوقف الحرب، بعدما تخطى عدد ضحاياها عتبة الإبادة!
ولا يلتفت رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهو يضع الشرط تلو الآخر، حتى يتمكن من مواصلة خطة الحرب على غزة، إلى الجبهة اللبنانية. عملياً، هو يتعاطى معها، كما لو كانت حدثاً منعزلاً عن حربه على غزة التي وسّعها، منذ أسبوع، لتشمل الضفة الغربية.
وقد كان لافتاً، في هذا السياق، أنّ نتنياهو، بعدما أدرج، في مؤتمره الصحافي المخصص لوسائل الإعلام الإسرائيلية، والذي عقده هذا الأسبوع، عودة سكان الشمال الذين جرى إخلاؤهم قبل أحد عشر شهراً من قرى وبلدات تقع على امتداد شريط بعمق خمسة كيلومترات، ضمن قائمة أهداف الحرب، عاد وسحبه في اليوم التالي، عندما عقد مؤتمراً صحافياً لمراسلي الصحافة الأجنبية.
ونتنياهو في نهجه المعتمد تجاه الجبهة اللبنانية يبدو “الأرحم” بين القوى الإسرائيلية الأخرى، ففيما يصر هو على البقاء في غزة، يدعوه الآخرون إلى التوقف عن “التلهي” بغزة والالتفات حصراً إلى الشمال، وشن حرب على لبنان، حتى يسلّم “حزب الله” بوجوب الانسحاب إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطاني، أي الابتعاد ما يكفي عن الحدود الإسرائيلية، ما يعين سكان البلدات والمدن الإسرائيلية القريبة من لبنان على العودة إلى حياتهم الطبيعية، بعدما جرى إخلاء أكثر من ستين ألفاً منهم إلى مناطق “الأمان”!
وبهذا المعنى لم تعد غزة تستحق الحرب، بالنسبة إلى كثير من الإسرائيليين. أصبحت، بنظرهم، مجرد “جبهة تلهٍ” عن الجبهة اللبنانية التي باتت تستحق التربع في رأس قائمة الأولوية!
لكنّ نتنياهو لا يتقاسم وإياهم النظرة نفسها إلى جبهة يعتقد أنّها “خارج السياق” و”منخفضة التأثير” و”قابلة للاحتواء” ولا تستحق صفة “العاجل جداً”!
على الجبهة الشمالية التي سقط فيها هدف “مساندة غزة” سقوطاً مدوياً، لم يخسر “حزب الله” أكثر من 430 مقاتلاً وقيادياً بينهم قائده العسكري فؤاد شكر فحسب، بل تسبب أيضاً بتدمير بلدات وقرى جنوبية عن بكرة أبيها وتسبب بهجرة ما يزيد عن نصف مليون نسمة ـ 120 ألفاً من الشريط الحدودي والباقون من سائر الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت – وألحق أضراراً مالية واقتصادية بكل مفاصل البلاد، وأظهر انقساماً مجتمعياً خطراً للغاية ستكون له تداعيات كثيرة على مستقبل لبنان ونظامه الدستوري ووحدته وتناغم مكوّناته!
والأدهى من ذلك كلّه، أنّ “حزب الله” الذي كان، في الشهر الأوّل من دخوله إلى “طوفان الأقصى”، يهدد إسرائيل بحرب شاملة، سرعان ما وجد نفسه منضبطاً في “حرب استنزاف”، وخائفاً من أن يجد نفسه مضطراً لخوض مثل هذه الحرب الشاملة، معتبراً كل من يعتقد بدنو أجلها “خائناً”!
وليس سراً أنّ “حزب الله” يترقب، بقلق كبير، أن تنتهي هذه الحرب بسرعة، بعدما أفقد نفسه القدرة على توقيفها بقرار منه، عندما أودع مصيرها عند “حماس” في غزة التي تفضل قيادتها الموت على الاستسلام الذي ينشده نتنياهو بدعم نسبي من البيت الأبيض!
وإذا لم تكن هذه هي الهزيمة الساحقة، حيث تتراكم الخسائر ويضيع الهدف وينفلت زمام الأمور، فماذا يمكن أن تكون؟!
ولكنّ اللبنانيين عموماً، والجنوبيين خصوصاً، لا يشعرون بوطأة هذه الهزيمة المدوّية. لا يعود السبب إلى غياب المساءلة هنا وانعدام القدرة على التعبير هناك ومنع رؤية فداحة الخسائر هنالك فحسب، بل إلى حرية العمل السياسي في إسرائيل نفسها، أيضاً!
إنّ حرية العمل السياسي التي يتمتع بها الإسرائيليّون تجاه حكومتهم وجيشهم وقياداتهم، حتى وهم يخوضون واحدة من أعنف وأطول حروبهم وأوسعها على الإطلاق، تسمح لهم بالتعبير عن إحباطاتهم. هؤلاء يقدمون لـ”حزب الله” القدرة على تقديم نفسه منتصراً!
ويدرج هؤلاء الإسرائيليون الذين يخوضون معاركهم السياسية والانتخابية ضد نتنياهو، عدم إقدام حكومتهم على إعطاء الأوامر بشن حرب واسعة على لبنان، في سياق هزيمة أمام “حزب الله” وتخلٍ عن شمال إسرائيل عموماً وعن الشريط الحدودي داخل الشمال، خصوصاً. يؤسس هؤلاء تقييم ما يحصل على البعد المناطقي، فهم، على سبيل المثال لا الحصر، اعتبروا تجييش الجيش الإسرائيلي مئة طائرة حربية، في “الهجوم الاستباقي” لـ”عملية الأربعين” التي نفذها “حزب الله” انتقاماً لاغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، دليلاً إلى أنّ الحكومة الإسرائيلية لا تستنفر قدراتها إلّا عندما تشعر بأن وسط إسرائيل عموماً وتل أبيب خصوصاً في خطر، في حين أنّها تترك الأمور على “علّاتها” عندما تكون المخاطر محصورة بالشمال.
وعلى رغم أنّ “حزب الله” يغرف من هذا “الجدل الإسرائيلي” ما يحتاج إليه من دعائم لدعايته السياسية، إلّا أنّه لا يلتفت إلى التداعيات السلبية لهذا “النق الإسرائيلي” التصاعدي الذي من شأنه أن يؤدي إلى تدحرج دراماتيكي، إذا لم يستجب الحزب المتحكم بقرار ما بقي قائماً من هيكل الدولة اللبنانية، للمساعي الدبلوماسية الهادفة إلى سحب مقاتليه وأسلحته إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطاني. تدحرج يمكن أن يقود إلى حرب واسعة يبدو واضحاً أنّ الحكومة الإسرائيلية – وهنا بدعم من المعارضة – تعد العدّة اللازمة لها، فيما تكون المخططات الخاصة بغزة قد اكتملت والخاصرة الرخوة في الضفة الغربية قد “اشتدت”، ومخازن ذخائر الجيش الإسرائيلي قد اكتملت، و”القبة الحديدية” قد تعززت بما يتم تجهيزه للمسيّرات الانتحارية!
ثمة من ينصح “حزب الله” بأنّ مصلحته تكمن في استعادة زمام القرار من يحيى السنوار والمسارعة إلى وقف حرب الاستنزاف بعدما خسرت أهدافها وخسّرت لبنان دعائم الصمود!
*نقلاً عن “النهار”