أذكر بوضوح أثناء نشأتي في ثمانينيات القرن الماضي في غرب العاصمة بيروت، ظهور ملصقات ضخمة لشخصية صارمة ومتجهمة، مرفقة باقتباسات إلى جانبها تصف الولايات المتحدة بـ «الشيطان الأكبر»، وإسرائيل بـ «الشيطان الأصغر»، داعية إلى تدميرهما.
كان هذا الرجل الغامض آية الله روح الله الموسوي الخميني، القائد الأعلى للثورة الإيرانية.
سرعان ما تبنّى «حزب الله»، صورة الولي الفقيه، ليتحول دور الحزب واسمه إلى مرادف لاختطاف الرهائن الغربيين.
بدأ مسيرته بتفجيرات السفارة الأميركية عام 1983 وبعدها تفجير مقر المارينز. وانتهت بالنسبة إلي شخصياً باغتيال صديقي لقمان سليم في فبراير 2021، وهو صوت ليبرالي صامد لم يقبل وينخدع أبداً بـ«تحوّل» حزب الله مثلما كان البعض يحاول الترويج له.
الحرب المستمرة بين إسرائيل و«حزب الله»، إلى جانب اغتيال الأمين العام لـ«الحزب» حسن نصرالله والقضاء بشكل كبير على قيادته العليا، كل هذا أعاد «الحزب» فعلياً إلى «إعداداته الأصلية».
فجأة تلاشت عقود من الجهود التي حاولت تزوير هوية لبنانية للميليشيات، ما أجبر «الحرس الثوري” الإيراني على التدخل وفرض سيطرته المباشرة على التنظيم «المتهالك».
بدأ «حزب الله» مسيرته كمجموعة جهادية متطرفة، ونما ليصبح ركيزة إستراتيجية للطموحات الإقليمية الإيرانية، لكن القناع الذي كان يخفي ارتباطه المباشر بإيران سقط مع انهيار سرديته وقادته.
في العقد الثاني من نشأته، أي خلال التسعينيات، كافح «حزب الله» للتخلص من سمعته كوكيل إيراني.
العديد من الشيعة اللبنانيين، الذين كانوا يناصرون في الغالب الإمام موسى الصدر وحركة «أمل»، سخروا كثيراً من «حزب الله». لم تساعد الممارسات الراديكالية للحزب، مثل رمي مادة «حامض الأسيد» على النساء السافرات، في تحسين صورته أمام جمهور الشيعة في لبنان بل على العكس من ذلك، جعلتهم يؤيدون حركة «أمل» في الحرب التي نشبت بينها وبين «حزب الله» منذ ما بعد منتصف الثمانينيات.
بالإضافة إلى أنه كان الكثير من الشيعة اللبنانيين بالفعل نشطين في الحركات السياسية العلمانية والماركسية، ما حدّ من جاذبية «حزب الله».
الرجاء قبول الموافقة على ملف تعريف الارتباط
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، سعى «حزب الله» إلى إعادة تموضعه من خلال التركيز على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.
وحتى بعد انسحاب إسرائيل في عام 2000، رفض «الحزب» انتشار الجيش في مناطق الشريط الحدودي وكذلك نزع سلاحه، مبرراً استمراريته بما يسمى «مقاومة» الاحتلال.
مع مرور الوقت، تحوّلت هذه «المقاومة» المزعومة إلى تهديد مباشر للبنان نفسه. ففي العام 2005 وما تلاه، اتُهمت شبكة كبيرة من «الحزب» باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
وصيف العام 2006، أشعل «حزب الله» حرباً استمرت 34 يوماً مع إسرائيل، دمرت خلالها البنية التحتية للبنان.
ثم، في مايو 2008، حاول الحزب الانقلاب على حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، كاشفاً عن طموحاته الطائفية بشكل علني.
بحلول عام 2011، انطلق الحزب خارج الحدود مشاركاً في الحرب السورية إلى جانب بشار الأسد وبعدها في اليمن وغيرهما من دول عربية، تحركات أثرت سلباً على اللبنانيين، ما زاد من عزلة الميليشيات وكشف عن وجه مذهبي معادٍ للعرب.
الخسائر الفادحة التي تكبدها «حزب الله» أخيراً أثارت نظريات مؤامرة تشير إلى أن إيران «باعت» الحزب مقابل صفقة أفضل مع إدارة جو بايدن.
هذه النظريات تصور إيران كلاعب براغماتي يمكن التفاوض معه، لكنها تتجاهل حقيقة أن طموحات إيران التوسعية منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 اعتمدت على «حزب الله» والفصائل الأخرى كوكلاء للدفاع عن هيمنتها الإقليمية ولتأسيس قوة ردعية. ليتبين أن الهدف المعلن لشعار «تحرير القدس» والدفاع عن المظلومين لم يكن سوى غطاء لطموح طهران في الهيمنة على لبنان وسورية والعراق واليمن.
الإخفاقات العسكرية للميليشيات في الحرب، والتهديد الوشيك بضربة إسرائيلية لإيران، أدت لإضعاف دورها كأداة، منذرة بنهاية تامة للقبضة القاتلة.
وأتى عدم قدرة الحزب على تعيين خليفة لنصرالله ليجبر «الحرس الثوري» على التدخل مباشرة، حيث لم تعد هناك حاجة أو ضرورة لطهران لمخاطبة اللبنانيين بلسان عربي.
أرسلت طهران العميد محمد رضا فلاح زاده للإشراف على القوة القتالية المتناثرة للحزب، ما يفسر التغير الأخير في التكتيكات الحربية، بما في ذلك الضربات الصاروخية الدقيقة على أهداف إسرائيلية مثل قاعدة بينيامينا العسكرية، ومقر إقامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الصيفي، والتي تشكل رسالة لإسرائيل عن رغبة إيرانية بإشعال الحرب والتقدم إلى حافة الهاوية للوصول إلى مساومة، تسمح لطهران بالبقاء كـ«لاعب إقليمي» له كرسي للتفاوض الدائم في المنطقة.
في المستقبل، من الأدق اعتبار «الحرس الثوري»، وليس «حزب الله»، هو الجهة التي تتفاوض مع إسرائيل والغرب، سواء بالقوة أو بالدبلوماسية.
تأمل إيران أن تؤدي زيادة التوترات على الجبهة اللبنانية إلى ردع إسرائيل عن شن هجوم انتقامي على أراضيها.
في الوقت نفسه، يجد لبنان نفسه تحت ثلاثة احتلالات: الجيش الإسرائيلي الغازي الذي يدمر القرى والمدن اللبنانية التي حولها “حزب الله» الى مخازن للسلاح، والحرس الثوري الذي يستخدم لبنان وشعبه كدرع بشرية، والطغمة السياسية الفاسدة أو الجبانة التي ترفض رسم طريق للمستقبل.
عاد «حزب الله» وإيران إلى نقطة البداية. فما بدأ في صيف 1982 بتأسيس مجموعة صغيرة، انتهى في خريف 2024 بانهيار شبكة كبيرة متهمة بالقتل والفساد، تاركة الطريق الوحيد الممكن أمام الشعب اللبناني وهو إعلان إيران قوة احتلال والنضال من أجل التحرر منها.
أي شيء أقل من هذا سيكون مضيعة للوقت والموارد والأرواح البريئة.
* نقلا عن ” الراي”