أصدرت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد) ورقة موقف جديدة بعنوان: “الفراغ القانوني بعد العدوان الإسرائيلي على غزة: تصاعد ظاهرة أخذ الحق باليد وتراجع مؤسسات إنفاذ القانون”، أعدّها الباحث محمد أسليم، وتناولت فيها الهيئة مظاهر الانهيار المؤسسي والعدلي في قطاع غزة عقب العدوان الإسرائيلي الأخير، وما نتج عنه من تفكك مؤسسات إنفاذ القانون وغياب المنظومة القضائية والأمنية الرسمية، بما أدى إلى تصاعد مظاهر الفوضى والانفلات الأمني وازدياد ظاهرة “أخذ الحق باليد” في ظل انعدام الردع القانوني.
وجاءت الورقة – الصادرة في عام 2025 – لتسلّط الضوء على أخطر التحولات التي أعقبت العدوان، وفي مقدمتها انهيار البنية التحتية للقطاع العدلي والأمني وتراجع الثقة العامة بالقانون، وارتفاع معدلات الجريمة والنزاعات الفردية والعائلية، إضافة إلى انتشار المظاهر المسلحة المحلية واحتكار السلع والمساعدات الإنسانية، في ظل غياب سلطة الدولة وانهيار هيبة المؤسسات الرسمية.
وأكدت الهيئة في مستخلص الورقة أن العدوان الإسرائيلي الممنهج على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 أدى إلى تآكل مؤسسات العدالة وتعطّل أجهزة إنفاذ القانون بعد استهداف أكثر من 240 مقراً شرطياً و10 مجمعات قضائية و8 مقار للنيابة العامة، فضلاً عن استشهاد وفقدان مئات العناصر والكوادر العدلية، ما تسبب في شلل شبه تام لمنظومة العدالة وتعذّر الفصل في آلاف القضايا المدنية والجنائية، الأمر الذي أفرز فراغًا قانونيًا خطيرًا امتد إلى مختلف مناحي الحياة العامة.
رصدت الورقة أن الانهيار المؤسسي بعد العدوان لم يقتصر على تدمير المقار، بل شمل أيضًا تفكك السلطة التنفيذية في الميدان نتيجة نزوح نحو 70% من عناصر الأمن وفقدان الاتصال بأغلب مناطق القطاع، ما تسبب في انتشار السلاح الفردي وظهور مجموعات مسلحة محلية تعمل خارج إطار القانون.
كما وثقت الهيئة ارتفاعًا كبيرًا في معدلات الجرائم، حيث تم تسجيل زيادة بنسبة 45% في الاعتداءات الفردية والعائلية، ووقوع أكثر من 200 حالة سرقة و45 واقعة نزاع مسلح محلي، إلى جانب 35 جريمة قتل فردي أو عائلي خلال الأشهر الأولى التي تلت وقف إطلاق النار.
وأشارت الورقة إلى أن هذا الواقع الميداني انعكس بشكل مباشر على النسيج الاجتماعي وثقة المواطنين بالقانون، إذ دفعت حالة الفوضى والانهيار المؤسسي كثيرين إلى البحث عن حلول ذاتية للنزاعات، ما أدى إلى تصاعد ظاهرة “أخذ الحق باليد” بوصفها تعبيراً عن فقدان العدالة الرسمية وشعور المواطنين بانعدام الحماية القانونية.
توقفت الورقة مطولاً عند ظاهرة “أخذ الحق باليد” باعتبارها واحدة من أخطر الظواهر الاجتماعية والأمنية التي برزت بعد العدوان، إذ تحوّل تطبيق العدالة من مسؤولية الدولة إلى ممارسات فردية وجماعية خارجة عن القانون.
وقد وثقت الهيئة 62 حالة لأخذ الحق باليد، بينها 27 حالة انتقام عائلي، و15 حالة اعتداء جماعي، و20 واقعة فرض عقوبات عشائرية دون غطاء قانوني، ما يعكس تحوّل العدالة الذاتية إلى بديل ميداني عن سلطة القضاء.
وبيّنت الورقة أن هذه الظاهرة تجسّد تآكل الثقة بمؤسسات العدالة وانهيار الردع القانوني، وتكشف عن تحوّل خطير في العلاقة بين المواطن والدولة. كما رصدت تصاعد الدعوات للتحريض الشعبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتنفيذ “القصاص الذاتي”، وقيام مجموعات محلية مسلحة بمهام “الأمن المجتمعي” أو السيطرة على المساعدات، ما أسفر عن انتهاكات واسعة للحقوق الفردية والجماعية.
وأكدت الهيئة أن ظاهرة أخذ الحق باليد تمثل خرقًا خطيرًا لمبدأ سيادة القانون والمساواة أمامه، وانتهاكًا صارخًا لحق الأفراد في محاكمة عادلة، داعية إلى تحرك رسمي عاجل لإعادة فرض سلطة القانون ومنع تفاقم مظاهر العدالة المنفلتة التي تهدد السلم الأهلي والنظام العام.
أبرزت الورقة أن تراجع مؤسسات إنفاذ القانون في غزة بعد العدوان يُعد من أخطر مظاهر الانهيار المؤسسي، إذ أظهر هشاشة المنظومة القانونية وضعف قدرتها على الصمود في أوقات الطوارئ.
وبحسب تقارير الهيئة، استشهد أكثر من 750 عنصرًا من أفراد الشرطة و100 من كوادر النيابة والقضاء، كما تعطلت نحو 45% من الشكاوى الجنائية المقدمة بين نوفمبر 2023 وأبريل 2024 دون اتخاذ أي إجراء رسمي، ما فاقم أزمة العدالة وعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع.
وشددت الهيئة على أن السلطات القائمة في قطاع غزة تتحمل مسؤولية قانونية مزدوجة:
أولها، ضمان الحد الأدنى من الأمن العام وإنفاذ القانون رغم الظروف الاستثنائية؛ وثانيها، الالتزام بواجب الدولة في حماية الحق في الحياة والأمن الشخصي، استنادًا إلى مبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين.
كما دعت الورقة إلى تفعيل عمل النيابات العامة تدريجيًا، وإعادة فتح المحاكم في مناطق آمنة، وتدريب كوادر العدالة على إدارة الأزمات، وإطلاق تقارير شفافة ودورية حول أداء الأجهزة العدلية لإعادة بناء الثقة المجتمعية.
وربطت الورقة بين ضعف الأداء المؤسسي وتفاقم الجرائم، مشيرة إلى ارتفاع استخدام السلاح الفردي بنسبة 220% وازدياد أنشطة العصابات المحلية والاحتكارات التجارية في ظل غياب الرقابة.
ثمّنت الهيئة دور منظمات المجتمع المدني في سد الفجوة المؤسسية مؤقتاً من خلال رصد الانتهاكات القانونية وتقديم المساعدة القانونية للضحايا، إضافة إلى إطلاق مبادرات مجتمعية للتهدئة والمصالحة وحملات توعية لتعزيز ثقافة الاحتكام إلى القانون.
كما أكدت على ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤولياته في دعم إعادة بناء مؤسسات العدالة من خلال توفير الدعم المالي والتقني لإعادة تأهيل المرافق القضائية والأمنية المتضررة، والضغط على سلطات الاحتلال الإسرائيلي لوقف استهداف البنية العدلية، ودعم برامج العدالة الانتقالية والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب.
اختتمت الورقة بالتأكيد على أن الفراغ القانوني الذي خلّفه العدوان الإسرائيلي على غزة لا يقتصر على البعد المادي أو المؤسسي، بل يمتد إلى البنية القيمية والاجتماعية التي تحكم علاقة المواطن بالدولة.
وحذّرت الهيئة من أن استمرار هذا الفراغ دون معالجة عاجلة سيؤدي إلى ترسيخ الفوضى والعنف الأهلي، داعية الجهات الرسمية إلى تبني خطة وطنية شاملة لإعادة بناء منظومة العدالة وسيادة القانون بوصفهما شرطين أساسيين لحماية الحقوق وضمان السلم المجتمعي بعد الكارثة الإنسانية المستمرة.






