أصدرت الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني “حشد” تحقيقًا حقوقيًا موسعًا بعنوان: “الإبادة ومجرياتها بعد الاعترافات الدولية بفلسطين: انهيار منظومة الحماية الأممية في غزة” أعدته الباحثة لبنى ذيب، والذي يُسلّط الضوء على واحد من أخطر أوجه الفشل الدولي المعاصر في حماية المدنيين الفلسطينيين خلال عامين من الإبادة الجماعية المتواصلة في قطاع غزة. ويرصد التحقيق المسار المتصاعد للجرائم المرتكبة، إلى جانب تحليل شامل لأوجه القصور الدولي وغياب أي فعل فعّال للأمم المتحدة في حماية المدنيين ووقف الانهيار الكارثي الذي طال مختلف جوانب الحياة.
ويشير التحقيق إلى أن قطاع غزة، خلال العامين الماضيين، تحول إلى مسرح مفتوح لانتهاكات جسيمة ومنهجية للقانون الدولي الإنساني وقواعد حقوق الإنسان، إذ تعرض المدنيون لأعلى درجات العنف والاستهداف المباشر والعقاب الجماعي، في ظل حصار خانق ومنع متعمد للتدفق الإنساني، واستهداف واسع النطاق للبنية التحتية، ما أدى إلى تدمير كامل أو شبه كامل للمستشفيات، والمساكن، والمدارس، ومراكز الإيواء، والمرافق الحيوية اللازمة لبقاء السكان على قيد الحياة. ويؤكد التحقيق أن هذا النمط من الاستهداف المنظم لا يمكن اعتباره مجرد نتيجة للأعمال العسكرية، بل يمثل سياسة واضحة تستوفي المعايير القانونية لتعريف جريمة الإبادة الجماعية، خاصة مع توافر نية الإضرار الجماعي وإحداث التدمير الممنهج للسكان المدنيين.
ويوثق التقرير أن مئات آلاف المدنيين تعرضوا للنزوح مرات متعددة، وانتقلوا بين مناطق الإيواء التي تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة، في حين عانت العائلات داخل هذه المراكز من انعدام المياه النظيفة، وتوقف شبكات الصرف الصحي، وغياب الخدمات الأساسية، وانتشار الأمراض المعدية، وارتفاع مستويات سوء التغذية، وتفاقم الأزمات النفسية، خصوصًا بين الأطفال الذين يعيشون حالة دائمة من الصدمة والخوف. ويؤكد التحقيق أن الظروف غير الإنسانية داخل مراكز الإيواء تمثل انتهاكًا صارخًا للحق في الحياة والكرامة والعيش الآمن.
ويفصل التقرير في عرض الانهيار الكامل للمنظومة الصحية في القطاع، حيث تم تدمير أو تعطيل المستشفيات، واستهداف الطواقم الطبية، ومنع دخول الأدوية والوقود، وحرمان آلاف الجرحى من العلاج العاجل، ما أدى إلى ارتفاع أعداد الوفيات بين مصابي العمليات العسكرية والمرضى من أصحاب الأمراض المزمنة. ويشير التحقيق إلى أن منع إدخال المعدات الطبية والمستلزمات الأساسية حوّل المستشفيات القليلة العاملة إلى مساحات عاجزة عن التعامل مع حجم الإصابات، في ظل غياب الكهرباء وتراكم النفايات الطبية، ما رفع احتمالات انتشار الأوبئة وتلوث مصادر المياه.
ويقدم التحقيق توثيقًا مفصلًا لحجم الدمار البيئي الذي لحق بالقطاع نتيجة القصف المتواصل، والذي أدى إلى تسرب ملوثات خطيرة إلى التربة ومصادر المياه الجوفية، إضافة إلى انتشار ركام المباني المدمرة بشكل يهدد الصحة العامة ويؤثر على الأمن الغذائي، في حين أدى توقف محطات التحلية والصرف الصحي إلى تلويث البحر والمناطق الساحلية، ما تسبب في أضرار بيئية طويلة الأمد قد يستغرق علاجها سنوات.
وعلى المستوى القانوني، يتناول التحقيق الدور المتراجع للمنظومة الدولية، مؤكدا أن الأمم المتحدة، بمختلف هيئاتها ووكالاتها، فشلت في اتخاذ أي إجراءات ملموسة تضمن تنفيذ القانون الدولي أو تحمي السكان. فرغم التقارير اليومية التي توثق الانتهاكات، ورغم صدور قرارات من محكمة العدل الدولية تطالب بوقف الجرائم واتخاذ تدابير احترازية، لم تنجح الأمم المتحدة في فرض آليات تنفيذية أو ضمان التزام سلطات الاحتلال بأي من هذه القرارات. ويصف التحقيق هذا الفشل بأنه أحد أكبر الانهيارات المؤسسية في تاريخ الأمم المتحدة منذ تأسيسها.
ويؤكد التقرير أن مجلس الأمن الدولي ظهر عاجزًا عن إصدار قرار يُلزم بوقف العمليات العسكرية أو توفير حماية دولية للمدنيين، وذلك بسبب التعطيل السياسي والفيتو، ما أدى إلى تقويض دور المجلس وإفقاده القدرة على التعامل مع واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. ويرى التحقيق أن هذا العجز شكّل عمليًا غطاءً لاستمرار الجرائم، خاصة في ظل امتناع الدول ذات التأثير عن اتخاذ خطوات مثل فرض عقوبات أو إجراءات تقييدية أو حظر تسليح.
ويخلص التقرير إلى أن المجتمع الدولي، عبر تردده وصمته وعدم تحركه الفعّال، منح حالة الإفلات من العقاب فرصة للتمدد، وسمح باستمرار الجرائم لأكثر من عامين دون محاسبة أو رادع. وتؤكد الهيئة الدولية حشد أن استمرار الوضع الراهن ليست فقط مأساة إنسانية، بل يمثل تهديدًا مباشرًا للنظام الدولي نفسه، ويقوض مبادئ العدالة والمساءلة وحقوق الإنسان.
وتطالب الهيئة الدولية حشد في ختام الخبر بضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة تشمل وقف العمليات العسكرية فورًا، ورفع الحصار بشكل كامل، وفتح ممرات إنسانية آمنة، وضمان إدخال المساعدات دون قيود، وتوفير حماية دولية للسكان المدنيين، إلى جانب فتح تحقيق دولي مستقل وشامل لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم، وفرض تدابير إلزامية على الدول لضمان عدم تكرار هذه الكارثة.
كما تشدد الهيئة على أن إعادة إعمار غزة وتوفير الحياة الكريمة لسكانها يتطلبان إرادة دولية مسؤولة، واستعدادًا لتطبيق القانون الدولي بعيدًا عن الانتقائية والمعايير المزدوجة، مؤكدة أن حماية المدنيين في غزة تمثل اختبارًا جوهريًا لمصداقية المجتمع الدولي والأمم المتحدة.





