دكتوراة في دراسات غرب اسيا ومفوض العلاقات الخارجية لدى منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو والقرى المستهدفة – فلسطين*
لم يعد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية ظاهرة هامشية عابرة، بل بات سياسة دولة معلنة تدار من أعلى هرم السلطة، ويتم تنفيذها عبر منظومة متكاملة من القرارات الحكومية، والخطاب التحريضي العلني، وتسليح المستوطنين، وفرض الوقائع بالقوة على الأرض. ما يجري اليوم هو مشروع ضم فعلي يعاد إنتاجه يوميا في مناطق “ج” والقدس المحتلة، في تحد مباشر للقانون الدولي، وعلى حساب الأمن الإنساني للفلسطينيين، ومستقبل أي تسوية سياسية قائمة على إنهاء الاحتلال.
في هذا السياق، لم يعد الاستيطان مجرد توسع جغرافي، بل أداة سياسية وأمنية تستخدم لتفكيك المجتمع الفلسطيني، وخنق المدن والقرى، وتدمير التواصل الجغرافي، وسط تصعيد غير مسبوق في التحريض الرسمي الذي يحول المدنيين الفلسطينيين إلى أهداف، ويقضي عمليا على ما تبقى من أفق لحل الدولتين، بينما يستمر الصمت الدولي في توفير غطاء غير مباشر لهذه السياسات.
قرارات كابينت: شرعنة نهب الأرض
بحسب ما كشفته قناة i24 العبرية، صادق مجلس الكابينت الإسرائيلي في اجتماعه الأخير على إنشاء 19 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية، في خطوة تعكس اندفاعا غير مسبوق نحو فرض وقائع دائمة على الأرض.
ففي تطور خطير يعكس تحولا في سياسة الحكومة الإسرائيلية نحو ترسيخ السيطرة على الضفة الغربية، صادق المجلس السياسي‑الأمني المصغر “الكابينت” على خطة لإنشاء 19 مستوطنة جديدة رسميا في الضفة الغربية المحتلة، بعضها في مواقع لم تكن إسرائيل موجودة فيها من قبل، وأخرى في مناطق مأهولة فلسطينيا، بما في ذلك مواقع يعود الاستيطان فيها إلى مستوطنات أجلت سابقا.
تؤكد حركة السلام الآن أن هذه الخطوة ليست مجرد توسيع رمزي، بل جزء من استراتيجية ممنهجة لتثبيت الوقائع على الأرض وإغلاق الباب أمام قيام دولة فلسطينية ذات اتساق جغرافي. قرار الكابينت يأتي مع وعد بالتخطيط السريع والتنفيذ الفوري، مما يجعل من الصعب لاحقا تفكيك هذه التجمعات أو إزالتها، ويعكس رغبة الحكومة في توسيع نفوذها الإقليمي بشكل دائم.
على الأرض، تظهر تقارير معهد أريج أن شبكة المستوطنات والبؤر الاستيطانية غير القانونية تتوسع بشكل منهجي، ولا تقتصر فقط على المستوطنات الكبيرة المعترف بها، بل تشمل أيضا بؤرا صغيرة تتوسع بمرور الوقت ويتم تحويلها تدريجيا إلى مستوطنات رسمية، مما يلتهم مساحات واسعة من أراضي الضفة الغربية ويعيق الحرية الفلسطينية في التخطيط والتنمية.
إضافة إلى ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية خصصت مبالغ ضخمة لدعم الاستيطان، بما في ذلك نحو 3 مليارات شيكل، تم توجيهها لبناء بنى تحتية، شق طرق، وتوسيع البؤر الاستيطانية وتحويلها إلى مستوطنات معترف بها رسميا، وهو ما يتناقض مع ادعاءات أنها تهدف إلى “تنمية”. هذا التمويل العملاق يستخدم لتثبيت الوقائع الاستيطانية وتعميقها، ويعد انتهاكا واضحا للالتزامات الدولية التي تحظر إقامة مستوطنات على أراض محتلة.
كما وتظهر هذه السياسات، التي تمتد عبر تغييرات إدارية وقرارات حكومية، أن الحكومة الإسرائيلية لا تتعامل مع الاستيطان كظاهرة هامشية بل كأداة مركزية في استراتيجيتها السياسية والأمنية، بهدف السيطرة على الأرض، خنق التجمعات الفلسطينية، وتقويض أي أفق لصيغة الدولة الفلسطينية المستقلة.
نتنياهو: نسف أوسلو والتحريض من أعلى الهرم
سبق وأن نقلت تقارير إعلامية إسرائيلية ودولية أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يشكك بشكل علني في إمكانية تنفيذ حل الدولتين. ففي مقابلة مع قناة CBS، قال نتنياهو إن تحقيق حل الدولتين قد يستغرق أجيالا، مشددا على شروط أمنية إسرائيلية تجعل من إقامة دولة فلسطينية كاملة غير واقعية في الوقت الحالي. وأوضح في خطاب أمام الأمم المتحدة أن الفلسطينيين، في رأيه، لا يريدون دولة إلى جانب إسرائيل مع الاعتراف المتبادل، وهو ما يُفسَّر على أنه رفض عملي لمبادئ حل الدولتين.
وفي جلسة الكابينت الأخيرة، لم يكتفي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالمصادقة على التوسع الاستيطاني، بل أطلق خطابا تحريضيا يؤسس أيديولوجيا للإقصاء، ويعلن عمليا دفن اتفاقيات أوسلو، و يبرر العنف ويغلق الباب أمام أي مسار سياسي، ويمنح الغطاء لاستمرار السيطرة بالقوة.
الأخطر من ذلك، ما ورد من أن نتنياهو توجه مباشرة إلى وزيري حكومته المتطرفين، بتسلئيل سموتريتش وأوريت ستروك، قائلاً:
“هناك حاجة إلى إنشاء المزيد من نقاط الاستيطان، واصلوا عملكم.”
إنها دعوة رسمية مفتوحة لتكثيف البؤر الاستيطانية، بما فيها غير القانونية، وتحويل المستوطنين إلى أداة تنفيذ لسياسة الدولة.
سموتريتش: السيطرة على الأرض والمياه كمكسب استعمارـي
في خطاب ألقاه من الأغوار، وجه وزير المالية وعضو الكابينت الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، رسالة مباشرة إلى المستوطنين، قائلاً: “لقد عدنا إلى آبار المياه وسيطرنا على كل هذه المناطق… أنتم أبطال، استمروا”.
هذا التصريح يظهر بوضوح لا لبس فيه الأهداف الاستعمارية للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يتمثل في السيطرة على الموارد الحيوية، ولا سيما المياه، وتجريد الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية في الأراضي والمياه، بما يعكس استراتيجية ممنهجة لإخضاع السكان الأصليين. كما يحول سموتريتش عملية الاستيطان إلى فعل بطولي في خطاب تحريضي أمام المستوطنين، معززا سردية تستبيح القوة وتشرعن فرض الوقائع على الأرض.
أما من الناحية التحليلية، فإن هذا الخطاب يشير إلى توظيف الموارد الطبيعية كأداة للسيطرة الديموغرافية والسياسية، ما يتوافق مع تقارير سابقة صادرة عن منظمات حقوقية مثل بتسيلم (B’Tselem) ومنظمة البيدر، التي رصدت كيف يتم استغلال المياه والمراعي في الأغوار لفرض نفوذ استيطاني مستدام على حساب المجتمع الفلسطيني المحلي، بما يشكل انتهاكًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان المتعلقة بالموارد الطبيعية
بن غفير: تسليح المستوطنين وتحريض شامل
يلعب إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي وأحد أبرز وجوه اليمين المتطرف، دورا مركزيا في عسكرة الاستيطان وتصعيد العنف ضد الفلسطينيين. اذ تشير تقارير إعلامية عدة إلى أن مناصري بن غفير وجماعات يمينية مدعومة سياسيا بأوامر رسمية، زادوا من وتيرة هجماتهم ضد القرى والتجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية، التي تتم غالبا بتواطؤ أو حماية من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. فقد وثقت مصادر قيام مستوطنين يرتدون زيا يشبه الزي العسكري بتنفيذ اعتداءات ضد الفلسطينيين، في ظل تقاعس الشرطة الإسرائيلية عن محاسبة المعتدين، وهو ما أثار قلق قيادات أمنية داخل الجيش الإسرائيلي نفسها بشأن تفجر الأوضاع في الضفة الغربية.
في موازاة ذلك، ربطت بيانات رسمية وتحذيرات دولية سياسات بن غفير حول تسهيل حصول المستوطنين على السلاح، بما في ذلك توزيع أسلحة خفيفة على مجموعات مسلحة مدنية تدعي “حماية الأراضي”. وقد أثارت هذه الخطوات احتجاجات واستقالات داخل جهاز ترخيص الأسلحة الإسرائيلي نفسه، بعدما اعتبر أن معايير السلامة مطموسة لصالح منح التراخيص بسرعة، مما يعزز قدرة مجموعات الاستيطان على حمل السلاح خارج نطاق ضوابط صارمة.
ولا يقتصر تحريض بن غفير على المدنيين الفلسطينيين، بل يمتد أيضا في خطاباته وتصريحاته العامة إلى استهداف القيادة الفلسطينية، بما في ذلك الرئيس محمود عباس، في خطاب يعزز الكراهية ويدفع نحو مزيد من العنف السياسي. وقد أدى هذا النمط التحريضي إلى فرض عقوبات دولية بحق بن غفير وشريكه بتسلئيل سموتريتش بتهمة “التحريض على العنف ضد الفلسطينيين”، حيث أعلنت دول عدة، بينها المملكة المتحدة وكندا ونيوزيلندا والنرويج، عقوبات تشمل حظر سفر وقيود مالية على الاثنين.
بهذا، يتحول بن غفير عبر سياساته ودعواته إلى عامل مباشر في تحويل المستوطنين إلى قوة تنفيذية شبه مسلحة، تعمل في سياق مشروع استيطاني توسعي مدعوم حكوميا، مع ما ينطوي عليه ذلك من انتهاكات متزايدة لحقوق الفلسطينيين، وتفكيك للنسيج الاجتماعي، وتصعيد للعنف في الضفة الغربية المحتلة.
القدس: 9 آلاف وحدة استيطانية لخنق الأحياء الفلسطينية
ضمن المخطط الأشمل، تمضي إسرائيل قدما في خطة جديدة لبناء 9 آلاف وحدة استيطانية في منطقة مطار القدس شمال المدينة، في قلب المنطقة الواقعة بين الأحياء الفلسطينية.
هذا المشروع لا يستهدف التوسع العمراني فحسب، بل يهدف إلى:
فصل شمال الضفة الغربية عن القدس
محاصرة الأحياء الفلسطينية
تغيير التركيبة الديمغرافية للمدينة
وإجهاض أي إمكانية لجعل القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية.
وقد حذرت منظمة البيدر للدفاع عن حقوق البدو والقرى المستهدفة من أن المخطط الاستيطاني الإسرائيلي الجديد المقترح على أراضي مطار القدس الدولي (قلنديا) شمال القدس المحتلة، والذي يهدف إلى إنشاء نحو 9 آلاف وحدة استيطانية، يشكل تصعيدا خطيرا في سياسة الاستيطان الهادفة إلى عزل القدس عن محيطها الفلسطيني. وأوضحت أن المشروع يستهدف ضرب التواصل الجغرافي والديمغرافي بين القدس ورام الله، وتقويض أي أفق سياسي قائم على حل الدولتين، ومنع تطور القدس الشرقية كمركز حضري وتاريخي وديني فلسطيني، عبر فرض وقائع استعمارية جديدة داخل فضاء حضري فلسطيني مكتظ يضم كفر عقب وقلنديا والرام وجبع وبيت حنينا وبير نبالا.
وأضافت المنظمة أن ما تعرف باللجنة اللوائية للتخطيط والبناء تعتزم بحث المخطط رقم (101-0764936) في جلسة مقررة بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2025، مع مؤشرات على تسريع تنفيذه عبر رصد ميزانيات بذريعة “تأهيل الأراضي”، رغم تجميده سابقا. وأشارت إلى أن جزءا من الأراضي المستهدفة ملكيات فلسطينية خاصة يخطط لإخضاعها لإجراءات قسرية دون موافقة أصحابها، في انتهاك صارخ لحق الملكية والقانون الدولي، محذرة من أن تنفيذ المشروع سيخلق جيبا استيطانيا يعمق تقطيع أوصال القدس، مؤكدة مواصلة توثيقه وفضحه أمام المؤسسات الحقوقية الدولية.
تداعيات ميدانية: الفلسطينيون تحت الحصار على الأرض، تترجم هذه السياسات إلى واقع دموي:
مصادرة أراض واسعة في مناطق «ج»
منع البناء الفلسطيني وهدم المنازل
السيطرة على مصادر المياه والمراعي
تصاعد عنف المستوطنين تحت حماية الجيش
تفريغ تدريجي للتجمعات البدوية والريفية.
الفلسطيني في مناطق “ج” لم يعد يواجه قرارات إدارية فقط، بل مشروع اقتلاع ممنهج تشارك فيه الحكومة، والجيش، والمستوطنون المسلحون، في انتهاك صارخ للقانون الدولي.
يؤكد خبراء القانون الدولي أن جميع هذه الممارسات تعد انتهاكا مباشرا لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة، كما أن التحريض العلني، وتسليح المستوطنين، والسيطرة على الموارد، قد يرقى إلى جرائم حرب بموجب القانون الدولي الإنساني.
الخلاصة: تحريض رسمي ومجتمع دولي يصمت
ما يجري في الضفة الغربية والقدس لم يعد بالإمكان تسويقه كسياسة أمنية أو خلاف سياسي قابل للاحتواء، بل بات مشروع ضم استعماري معلن تقوده دولة بكامل مؤسساتها. حكومة نتنياهو توفر الغطاء السياسي، وسموتريتش يرسم الخرائط ويصادر الأرض، وبن غفير يسلح المستوطنين ويؤمن لهم الحصانة، بينما يعاد إنتاج خطاب كراهية رسمي يشرعن العنف ويحول الفلسطيني إلى “هدف” لا إلى إنسان له حقوق. على الأرض، تترجم هذه السياسة إلى توسع استيطاني محموم، تفكيك ممنهج للجغرافيا الفلسطينية، وتصعيد يومي يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنه من أمنهم و وجودهم ومستقبلهم.
في هذا المشهد، لا يدفن حل الدولتين تدريجيا فحسب، بل يتم الإجهاز عليه عمدا بالإسمنت والسلاح والتحريض، فيما يواصل المجتمع الدولي الاكتفاء بلغة القلق والإدانة الشكلية. السؤال لم يعد يدور حول ما إذا كانت إسرائيل تقوض حل الدولتين، فالأدلة باتت موثقة ومعلنة، بل عن حدود الصمت الدولي، وإلى متى سيظل الإفلات من المحاسبة هو القاعدة التي تسمح بفرض وقائع لا رجعة فيها، وبدفع المنطقة بأسرها نحو انفجار مفتوح.
ختاما، وفي ظل هذا الواقع، لم يعد السؤال: هل تقوض إسرائيل حل الدولتين؟ بل: إلى متى سيبقى الإفلات من المحاسبة هو القاعدة؟.







