في زمنٍ لم يعد فيه العداء السياسي يقاس بالخطابات، ولا المواقف تُقاس بالتصريحات النارية، يُمكن للمرء أن يقع فريسة مسرحية طويلة الأمد، عنوانها “العداء”، وجوهرها “التفاهم”، وأبطالها: الولايات المتحدة، إيران، والكيان الصهيوني. هذه الأطراف الثلاثة تُجيد استخدام الشعارات، وتُتقن إدارة الأدوار، بينما هي في الحقيقة تشكل مثلثًا محكم الزوايا، يحكم قبضته على دماء الشعوب، ويتقاسم النفوذ في الشرق الأوسط على قاعدة الغدر والخداع والصفقات السرية. هذا ما كشفه الباحث الأمريكي – الإيراني تريتا بارسي في كتابه الشهير “التحالف الغادر: الصفقات السرية بين إسرائيل، إيران، والولايات المتحدة” (Treacherous Alliance)، وهو الكتاب الذي صدر عام 2007، وأثار ضجة كبيرة داخل أروقة السياسة الخارجية الأمريكية، لما تضمنه من شهادات حية ووثائق رسمية ومقابلات مباشرة مع أكثر من 130 مسؤولًا دبلوماسيًا وأمنيًا من الدول الثلاث.
بارسي، الذي كان أحد مستشاري الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في ملف العلاقات مع إيران، ومؤسس “المجلس الوطني الإيراني الأمريكي (NIAC)”، لم يبنِ أطروحته على تحليل صحفي أو موقف أيديولوجي، بل على دراسة منهجية موثقة، راكمت الأدلة على مدى سنوات، وأكدت أن “العداء الظاهري” بين إيران وإسرائيل، وتحت إشراف واشنطن، لم يكن في جوهره صراعًا وجوديًا، بل مناورة سياسية معقدة تُدار بدقة لتقسيم النفوذ، وتبرير التدخلات، وابتزاز المنطقة على المستويات كافة.
ففي الوقت الذي كانت فيه إيران تصف إسرائيل بـ”الشيطان الأصغر”، وتُدين الجرائم الصهيونية في فلسطين، كانت في الخلف تُنسق معها بشكل عملي. خلال الحرب الإيرانية – العراقية (1980–1988)، وثّق بارسي أن 80٪ من الأسلحة التي استعملتها إيران كانت قادمة من إسرائيل، في واحدة من أكبر المفارقات السياسية في التاريخ المعاصر. وقد تمّ ذلك تحت إشراف الإدارة الأمريكية، عبر ما عُرف لاحقًا بـفضيحة “إيران – كونترا”، حين باعت الولايات المتحدة أسلحة لإيران سرًّا (عبر إسرائيل) بتمويل من صفقات مشبوهة لدعم ميليشيات في أمريكا اللاتينية.
الأكثر إثارة في الكتاب، هو ما كشفه من أن إيران عرضت على إسرائيل استخدام مطاراتها في مدينة طَبَريز شمال غرب إيران، لتكون منصة انطلاق في حال قررت تل أبيب شنّ غارات جوية على المفاعل النووي العراقي في عهد صدام حسين. كان هذا العرض رسالة ضمنية مفادها أن العداء الظاهري لا يمنع وجود تفاهمات استراتيجية حين تتقاطع المصالح. فإيران، بعد سقوط الشاه، احتاجت إلى تسليح سريع خلال حربها مع العراق، وإسرائيل وجدت في ذلك فرصة لإضعاف دولة عربية كبرى دون أن تخسر جنديًا واحدًا، أما أمريكا، فقد كانت تدير اللعبة بأكملها من الخلف، دون أن تتورط علنًا.
يرى بارسي أن التحالف السري بين إيران وإسرائيل، لا يمكن فهمه دون استيعاب البُعد الطائفي والسياسي المشترك. فكلا الطرفين – كما يؤكد – كيان طائفي أقلّيّ في محيط إسلامي سني غالب. كل منهما يحمل هاجس الخوف من “الهوية العربية السنية” التي شكّلت تاريخيًا مركز الثقل في الإسلام الحضاري والسياسي. هذه الرؤية أنتجت نوعًا من التوافق الضمني بين المشروع الصهيوني والمشروع الصفوي، حيث يرى كلاهما في سقوط الخلافة الإسلامية وبزوغ القومية العربية خطرًا وجوديًا على استمرارهما. ولهذا، فإن ما جرى في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، لم يكن إلا تنفيذًا لهذه الرؤية المشتركة، عبر تحالفات متشابكة، تستخدم الطوائف والميليشيات، وتُشرعن القتل تحت رايات دينية أو وطنية مزيفة.
إيران، منذ احتلال العراق عام 2003، بدأت بتوسيع نفوذها عبر أذرع طائفية، مستغلة الغزو الأمريكي لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية لصالحها، بمباركة أمريكية – إسرائيلية غير معلنة. ولم تعترض إسرائيل يومًا على النفوذ الإيراني في العراق، بل وجدت فيه فرصة لتدمير قوة عربية صاعدة كانت تشكل تهديدًا استراتيجيًا لتل أبيب. والأمر نفسه في سوريا، حيث تحالفت طهران مع نظام الأسد لإخماد الثورة الشعبية، ولم تتعرض منشآت حزب الله هناك لضربات إسرائيلية تُذكر خلال السنوات الأولى، رغم معرفتها الدقيقة بتحركاته، وامتلاكها قدرات استخباراتية فائقة في الجنوب السوري.
بل إن الضربات المتبادلة بين إيران أو حلفائها وإسرائيل، لم تخرج عن نطاق “الضربات التكتيكية المؤقتة”، وغالبًا ما كانت بمثابة رسائل تفاوضية خشنة، يتم ضبط توقيتها بدقة، لتُستأنف بعدها قنوات التواصل السرية. فلم نشهد يومًا حربًا شاملة بين الطرفين، ولم يقطع أيٌّ منهما علاقاته غير المباشرة مع الآخر، سواء عبر قنوات دبلوماسية، أو أطراف ثالثة كتركيا، سلطنة عُمان، أو روسيا.
وفي لبنان، تُعدّ العلاقة بين “حزب الله” وإسرائيل نموذجًا واضحًا لهذا “العداء المُدار”. فمنذ حرب 2006، لم تحدث مواجهة مباشرة كبرى بين الطرفين، رغم تكرر التهديدات. وحتى حين اندلعت المواجهات الأخيرة في جنوب لبنان، بقيت ضمن السقف المحدد، وتجنّب الطرفان الوصول إلى الحرب الشاملة، رغم الاستفزاز المتبادل. ويعلم المتابعون أن هذه “اللعبة” ضرورية للحفاظ على توازن معين يسمح لكل طرف بتبرير سياسته أمام جمهوره، دون تغيير في معادلة القوة الفعلية.
وفي الوقت الذي تم فيه اغتيال علماء نوويين إيرانيين، ظل البرنامج النووي نفسه على قيد الحياة، ولم يتم استهداف مفاعلات مركزية إلا ضمن حدود مدروسة، لا تُفضي إلى اشتعال حرب، ولا تؤدي إلى انهيار المشروع. أما الولايات المتحدة، فهي اللاعب الأذكى في هذا المثلث، تستخدم العداء الظاهري بين طهران وتل أبيب لتبرير دعمها للطرفين: تعطي إسرائيل سلاحًا ونفوذًا غير مشروط، وتُبرم مع إيران صفقات نووية تحت الطاولة حين تقتضي الحاجة، كما فعلت إدارة أوباما في اتفاق 2015، الذي فتح لطهران باب الشرعية الدولية، ومكّنها اقتصاديًا مقابل تجميد مشروط ومؤقت لبعض الأنشطة النووية.
وهنا تظهر الحقيقة الكبرى: ما يجري ليس صراعًا بين “الخير والشر”، ولا بين “المقاومة والعدوان”، بل مجرد لعبة مصالح دولية قذرة، يدفع ثمنها الأبرياء في غزة، والموصل، ودرعا، وصنعاء، وبيروت، بينما يضحك صانعو الموت في واشنطن وطهران وتل أبيب على شعوب تائهة في خنادق الوهم.
فالعداء بين إيران وإسرائيل ليس جوهريًا، بل مؤقت، تكتيكي، قابل للتعديل حسب الظروف. لا شيء يفسر هذا السلوك الغريب إلا منطق الغدر السياسي، والصفقات السوداء، والتاريخ الطويل من الخيانات المغلفة بالشعارات. ليست المشكلة في سقوط صاروخ هنا أو هناك، بل في سقوط الحقيقة أمام آلة إعلامية ضخمة تخدع العقول، وتغطي الدم بالضجيج.
الخلاصة أن المشهد معقد، لكنه ليس مستحيل الفهم. فقط حين نكسر وهم الثنائية (عدو–صديق)، ندرك أن ما يُعرض على الشعوب ليس سوى مسرح ساخر تُديره واشنطن، وتُمثّل فيه طهران وتل أبيب ببراعة. الخلافات بين الأطراف ليست على المبادئ، بل على نِسَب الربح، وعلى حجم النفوذ، وعلى من يملك القرار النهائي في رسم مستقبل المنطقة.
هذا هو حلف الغدر الحقيقي. إيران، إسرائيل، وأمريكا… ثلاثة أطراف، وثلاث أدوات: الخطاب، السلاح، والخداع. أما نحن، فأوطان مستباحة، ودماء تُستثمر، ووعي يُغتال. لذا لا تُصدقوا المسرح، فالممثلون يتبادلون الأدوار، والمخرج واحد، والجمهور – للأسف – ما زال يصفق.