ليس في هذه القراءة ما يُشبه نشرات الأخبار ولا بيانات الفصائل،
ولا هي مرثية أو مديح.
هي محاولة لالتقاط اللحظة بعينٍ فلسطينيةٍ حُرّة، ترى الصورة كما هي، لا كما يُراد لها أن تُرى.
كاميرا الوعي تقترب من المشهد ببطء، من فوق الركام، ومن بين صمت الغرف المغلقة في الدوحة والقاهرة،
حيث تدور النقاشات حول ما تبقّى من حركةٍ كانت تحمل السلاح كقدرٍ مقدّس، وتجد نفسها اليوم أمام سؤالٍ لا مهرب منه:
كيف تبقى داخل المعادلة دون أن تُكسر،
وكيف تتحرك دون أن تفقد هويتها؟
الذين يعرفون تعقيدات اللحظة يدركون أن ما يجري داخل حركة حماس ليس نزهة سياسية.
فمنذ انتهاء جولات النار في غزة، تكاثرت الضغوط العربية والدولية،
وضُرب طوق من الترتيبات يحاول إعادة رسم السلطة والإدارة في القطاع.
في القاهرة اجتماعات مغلقة تقودها المخابرات المصرية بحضور ممثلين عن قطر وتركيا،
وفي الدوحة حوارات أهدأ لكنها أعمق، تتناول شكل ما بعد الحرب،
فيما تحاول واشنطن وتل أبيب أن تفرضا جدولاً جديدًا يُحيّد المقاومة ويفتح الباب أمام ما يُسمّى
“إعادة الإعمار بشروط الأمن”.
هذه ليست تكهنات؛ إنها وقائع تتسرب من تصريحات وتصريحات مضادة، ومن خرائط توزيع الأدوار التي يرسمها اللاعبون الإقليميون.
داخل الحركة نفسها، هناك إدراك أن العودة إلى ما قبل الحرب مستحيلة.
التيار السياسي في الخارج، من مشعل إلى الحيه الى أبو مرزوق إلى بعض الوجوه الجديدة،
يدفع باتجاه قراءة أكثر براغماتية،
لا تُلغي المقاومة ولكن تحاول تأطيرها ضمن معادلة وطنية جديدة.
بينما الجناح الميداني في غزة، المحاصر بالنار وبالدم، يرى أن أي خطوة للخلف قد تُفقده ما تبقّى من معنى الصمود.
الاختلاف ليس انقسامًا بعد، لكنه صراع رؤى بين “التكتيك” و”الجوهر”،
بين من يقرأ ميزان القوى كما هو، ومن يصرّ أن التنازل ولو خطوة بداية انحدار.
في هذا المشهد المعقد، تتحرك مصر كوسيطٍ يملك مفاتيح المعابر والشرعية العربية،
تضغط باتجاه “سلطة موحدة” تحت راية منظمة التحرير،
بينما قطر تستخدم قنواتها لتقديم ضمانات مالية وسياسية لحماس،
تحاول أن تخلق لها مخرجًا مشرّفًا لا يبدو فيه التحول السياسي استسلامًا.
تركيا تراقب وتهمس، تحاول أن توازن بين مصالحها في المنطقة وبين حضورها الرمزي في القضية الفلسطينية.
أما السلطة في رام الله، فتتعامل بحذرٍ وريبة،
ترى في كل انفتاح على حماس خطرًا يهدد موقعها، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن استبعاد الحركة لم يعد ممكنًا.
فالشارع الذي تعب من الانقسام يرى أن الوحدة لم تعد خيارًا أخلاقيًا بل شرط حياة.
الاستطلاعات التي صدرت مؤخرًا، مهما تعددت مصادرها، تحمل رسالة واحدة:
تراجع الثقة بالفصائل جميعها، من حماس إلى فتح إلى الجهاد والجبهة،
وصعود الصوت الشعبي الذي يقول “لا أحد يمثلني”،
وهذه الصرخة ليست تمرّدًا على الفصائل بقدر ما هي دعوة للعودة إلى الجوهر: الشعب والوطن.
إن وجود حماس والجهاد داخل منظمة التحرير، حتى لو تكتيكيًا،
هو قوة لا ضعف،
لأن المنظمة التي تضم الجميع تصبح وطنًا سياسياً قبل أن تكون مؤسسة،
ولأن الميثاق الوطني لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالتعدد.
تدرك قيادة حماس اليوم أن الأبواب القديمة أُغلقت،
وأن العالم العربي تغيّر، وأن إيران التي احتضنت المقاومة عسكريًا ليست بوابة السياسة.
لذلك تُفكّر ببراغماتية لا تخلو من الألم: كيف تدخل منظمة التحرير دون أن توقع على أوسلو،
وكيف تُبقي على سلاحها كرمزٍ لا كتهديد،
وكيف تُحافظ على شرعية الشارع دون أن تُعاد عزلة غزة بشكلٍ جديد؟
هنا يأتي معنى “التكتيك” في اللغة السياسية لا كمكر، بل كفنّ البقاء.
فالحركة التي لا تملك رفاهية الرفض الدائم، ولا القدرة على الاستسلام،
عليها أن تمشي على الحافة، خطوة للوراء لتستعيد التوازن، لا لتسقط.
لكن المعادلة ليست بيدها وحدها.
إذا لم تلتقط منظمة التحرير هذه الإشارات وتحوّلها إلى فرصة وطنية،
فسنجد أنفسنا مرة أخرى أمام صراع تمثيل لا ينتهي.
منظمة التحرير لا تحتاج إلى توبة أحد، بل إلى تجديد نفسها بمن انضمّ إليها ومن عاد إليها.
وإذا كانت أوسلو قد ماتت في الوعي الجمعي،
فالميثاق الجديد يجب أن يُكتب على ضوء الحرية لا المفاوضات،
على ضوء الدولة المدنية الديمقراطية المستقلة لا تقاسم النفوذ والرواتب.
قد يرى البعض في هذا التحليل نبوءةً مبكرة أو حلمًا بعيدًا،
لكن الواقع يُشير إلى أن كل الأطراف تتجه مضطرة نحو نقطة التقاء،
ليس حبًا في الوحدة بل هربًا من الفراغ.
الفراغ الذي يبتلع كل شيء:
السلاح، الشرعية، والكرامة.
والشعب، كعادته، يسبق الجميع في الفهم،
يعرف أن الخلاف لم يعد بين “مقاومة” و”سلطة”،
بل بين من يريد وطنًا ومن يريد سلطة فوق الوطن.
ما أراه من موقع الشعب والوطن،
أن اللحظة الراهنة ليست هزيمة ولا نصرًا،
بل امتحانٌ حقيقيّ للوعي السياسي الفلسطيني:
هل نستطيع أن نحول التكتيك إلى رؤية؟
وأن نجعل من الخلاف تعددًا لا قطيعة؟
وأن نفهم أن الوطن لا يحتمل فائض الأبطال ولا فائض الشعارات؟
إن الشعب يريد وطنًا حيًّا لا حفلة نصرٍ في الخراب.
يريد أن يرى قياداته — جميعها — تتقدم نحو بناء دولة فلسطينية حرّة مدنية ديمقراطية،
يحكمها العقل لا الغضب، والمصلحة العامة لا الغنيمة التنظيمية.
وإن لم تفعل القوى كلها، من فتح إلى حماس إلى الجهاد إلى الجبهة،
فستخرج من ذاكرة الناس كما خرجت أنظمة كثيرة من التاريخ،
ويبقى الوطن وحده،
الشاهد والضحية،
والراية التي لم تسقط.
يحيى بركات
مخرج وكاتب سينمائي
رام الله — 26 تشرين الأول / أكتوبر 2025
#روحية_المشارف #الشعب_والوطن #فلسطين_المستقبل








