في عمق الكارثة التي تعيشها غزة، وسط ركام البيوت المتهاوية وصراخ الأطفال المنكوبين، يطرح السؤال نفسه بإلحاح يتجاوز كل عناوين الشعارات: هل تورّطت حماس في دفع أهل غزة إلى المحرقة تحت لافتة “المقاومة”، أم أنّ الحركة كانت ضحية تحالفات إقليمية سخّرتها قوى كبرى –كإيران وتركيا وقطر– لخدمة مصالحها وأجنداتها في المنطقة؟
وهل كانت الحرب، في حقيقتها، معركة فلسطينية من أجل الحرية، أم فصلًا جديدًا من لعبة دولية قذرة تديرها قوى تتقن إشعال الحرائق وتغتسل بدماء الأبرياء؟
منذ لحظة انطلاق عملية السابع من أكتوبر، وما تبعها من ردّ إسرائيلي دموي، ظهر أن المشهد أعقد بكثير من سردية “مقاومة تقاتل محتلًا”، بل بدا أنّ غزة تُساق مرة أخرى نحو قدرها المشؤوم، بلا حماية، بلا أفق، وبثمن إنساني وسياسي كارثي.
لقد تحوّلت المقاومة إلى محرقة، وأصبح المواطن الغزي، بكل آلامه وجوعه وتشرده، مجرد ورقة على طاولة قمار سياسية تتقاطع فيها مطامع أنظمة ومصالح محاور متصارعة.
إسرائيل، بقيادة نتنياهو، استغلت المشهد لتعيد ترميم شرعيتها المهزوزة، وتوحيد جبهتها الداخلية المفككة، وصناعة عدو خارجي يبرر الحصار والدمار والقتل الجماعي.
لقد كانت الحرب هدية سياسية له، استغلها لترميم صورته أمام القضاء والرأي العام الإسرائيلي، ورفع منسوب التأييد له باعتباره “قائدًا حازمًا” في مواجهة “الخطر الإسلامي”، في حين أن الأهداف الحقيقية كانت أبعد من مجرد الردّ على عملية عسكرية، بل تمثلت في تدمير البنية التحتية للمقاومة، كسر إرادة الغزيين، وتحقيق مكاسب جيوسياسية في الإقليم.
لكن المأساة الأكبر تجلّت في موقف حماس، تلك الحركة التي ولدت من رحم المقاومة ضد الاحتلال، لكنها وجدت نفسها اليوم مقيّدة داخل شبكة من التحالفات المشبوهة، والولاءات المتناقضة، والأجندات العابرة للحدود.
لقد بات قرارها مرهونًا بمحاور تتصارع على النفوذ في الشرق الأوسط، من طهران إلى أنقرة، مرورًا بالدوحة، حيث تُرسم خرائط الحرب والسلم بعيدًا عن صوت الفلسطيني وعن دم الشهداء.
فالتحالف مع إيران، رغم ما يوفره من دعم عسكري وتقني، يضع حماس ضمن محور طائفي يخوض صراعاته بالنيابة على أرض الغير، في حين لا تعترف طهران بفلسطين إلا كورقة مساومة على طاولة المفاوضات النووية أو ضمن أدوات الضغط على واشنطن وتل أبيب، وكل خطابها عن القدس مجرد ديكور دعائي يهدف إلى تصدير صورة المقاومة الثورية، بينما هي تُنسّق في الخفاء مع أطراف معادية في ملفات أخرى.
أما تركيا، فقد كانت الأكثر نفاقًا، إذ لم تتوقف علاقاتها التجارية والعسكرية مع الكيان الصهيوني يومًا، ومع ذلك تخرج قيادتها لتصرخ وتندد وتذرف دموع التماسيح، ثم تعود لتوقّع اتفاقات الغاز والطاقة، في تناقض سافر يكشف حجم التلاعب السياسي الذي تتعرض له القضية.
وقطر، من جهتها، تمارس دور “الراعي المالي” للحركة، بينما تحتفظ بعلاقات وطيدة مع واشنطن وتستضيف قيادات حماس في فنادقها الفاخرة، حيث تُدار المعارك السياسية بعيدًا عن نبض الشارع الغزي، في مفارقة أخلاقية صارخة بين من يقود المقاومة من الميدان ومن يديرها من الخارج.
وسط هذه المعادلة، يتضح أن حماس وقعت في شرك مزدوج:
من جهة، تحاول الحفاظ على شعاراتها الثورية لتبرير وجودها كقوة مقاومة، ومن جهة أخرى، تجد نفسها جزءًا من تحالفات لا تؤمن أصلًا بالقضية الفلسطينية، بل توظفها لمصالحها الخاصة.
والنتيجة أن غزة تدفع الثمن: آلاف الشهداء، ومئات الآلاف من النازحين، وبنية تحتية مدمرة، وقضية تخسر كل يوم من تعاطف العالم بعدما أصبحت –في نظر البعض– مرهونة لجهات غير وطنية، بل وغير عربية.
الأخطر من كل ذلك هو أن الفكرة الإخوانية التي تتبناها حماس، بتصورها الأممي العابر للحدود، ترفض أصلًا فكرة الدولة الوطنية، وترى الولاء للمرشد أو التنظيم العالمي فوق الولاء للوطن أو النظام السياسي القُطري، وهي فكرة تهدد كل كيان سيادي، وتحوّل التنظيم إلى مشروع خارجي، لا يعترف بشرعية الدولة، بل يرى فيها “جاهلية معاصرة” يجب تفكيكها واستبدالها بدولة الخلافة، وهو نفس المنطق الذي غذّى تنظيمات العنف في أفغانستان وسوريا والعراق وليبيا.
هذا الفكر التخريبي، الذي يتغذى على نظرية المؤامرة وشعار “الإسلام هو الحل”، استُغل من قبل قوى عالمية لتفكيك المجتمعات العربية من الداخل، عبر ضرب مؤسسات الدولة، وتحويل المقاومة إلى مليشيات دينية عابرة للحدود، تقاتل لا من أجل حرية الشعوب، بل من أجل تمكين التنظيم وتمديد نفوذه.
هكذا، غابت فلسطين الحقيقية من خطاب حماس، لتحل محلها سردية إسلاموية عابرة، جعلت من غزة ساحة اختبار لأفكار سيد قطب ومشاريع الخلافة، في حين كانت إسرائيل تمارس مشروعها الاستيطاني بكل أريحية، متفرجة على العرب وهم يتصارعون باسم الدين، في حرب استنزاف عبثية لا نهاية لها. لقد آن الأوان للفصل بين المقاومة الحقيقية التي تهدف إلى التحرير، والمقاومة المزيفة التي تتحول إلى ذراع إقليمية لخدمة مشاريع الغير.
فالمقاومة لا تعني تحالفًا مع فارس ضد العرب، ولا تعني الاحتماء بأنقرة التي تطعن في الظهر كلما سنحت لها الفرصة، ولا تعني الارتهان لأموال قطر التي تُصرف بالقطّارة، حسب الرضا والغضب الأمريكي.
المقاومة هي مشروع وطني، سيادي، مستقل، يقوده أبناء الأرض لأجل الأرض، لا تنظيمات أممية ولا أجندات مذهبية ولا ارتباطات استخباراتية.
وغزة لا تستحق أن تكون وقودًا لحرب الوكلاء، ولا ساحة عبور لطموحات إيران، ولا ورقة ضغط في يد قطر، ولا ذريعة لخطاب أردوغان الذي يخدع به جمهوره ويصالح تل أبيب في السر.
كما لا تستحق أن تظل ضحية فكرة إخوانية لا تعترف بالدولة، بل تحلم بتفكيكها، تحت وهم الخلافة التي لا تأتي إلا على أنقاض المجتمعات.
إن ما يحدث في غزة مأساة تاريخية بامتياز، لكنه أيضًا فرصة نادرة لمراجعة المشروع السياسي لحماس، والفكر الأيديولوجي الذي يقف وراءها، وإعادة تعريف المقاومة كحق وطني، لا كأداة توظيف في لعبة إقليمية قذرة. فإما أن تتحرر حماس من أسر المحاور، أو تتحول إلى عبء على القضية.
وإما أن تستعيد قرارها الوطني، أو تصبح مجرد ميليشيا جديدة في سوق المرتزقة. وإما أن تكون غزة رمزًا للتحرير، أو تتحول إلى قبر مفتوح ندفن فيه حلم فلسطين.