لم يكن التوتر الأخير في حمص مجرد اضطراب أمني محدود، بل كان لحظة كاشفة لمدى الهشاشة البنيوية التي ما تزال تضرب النسيج الاجتماعي للمدينة بعد عقود من السياسات التي خلخلت توازنها الطبيعي. فأي عبارة تُكتب على جدار، أو شائعة تنتشر في الأزقّة، يمكن أن تتحول إلى شرارة تهدد بإشعال مواجهة طائفية جديدة، وكأن المدينة ما تزال معلّقة داخل منظومة من الاصطفافات السياسية والأمنية المصطنعة التي رسّختها السلطة القديمة وتركَت آثارها ممتدة حتى اللحظة. حمص، التي كانت في الماضي رمزًا للتداخل والتعدّد، أصبحت اليوم ساحة يتقاطع فيها الخوف مع السلاح، والذاكرة مع الجراح المفتوحة، ما يجعل أي حادثة فردية قابلة للتمدّد إلى أزمة جماعية. ومع كل جريمة قتل أو احتكاك محلي، يطفو ذلك الإرث المُثقل بالتحريض والانقسام، ليحوّل التوترات الصغيرة إلى كرة نار قد تتجاوز بتداعياتها ما شهدته مدن سورية أخرى في السنوات الأخيرة.
إرث نظام الأسد
لم يكن تقسيم الأحياء الطائفي في حمص مجرد ترتيبات عمرانية، بل كان سياسة ممنهجة لإعادة تشكيل الجغرافيا الاجتماعية على نحو يضمن بقاء الشكوك المتبادلة بين مكوّنات المدينة حيّة وحاضرة عند الحاجة. ومع اندلاع الثورة وما تلاها من عسكرة وانتشار للميليشيات، تحوّل هذا الإرث إلى منظومة كاملة تحكم العلاقات بين الجيران وتحول الخلافات إلى صدامات، والعنف الفردي إلى مواجهة جماعية. جاءت جريمة قتل عبد الله العبود وزوجته لتكشف عمق هذا الواقع، إذ تحولت من فعل جنائي قاسٍ إلى مادة تفجير اجتماعي استدعت ردود فعل مسلحة وهجمات انتقامية، وأعادت طرح سؤال العيش المشترك على طاولة القلق. ومع تعدد مراكز القوة وانتشار السلاح خارج قبضة الدولة، بات الشعور بالتهديد وجوديًا لدى كل طائفة، وصار الخوف مشتركًا بين الجميع؛ السنة والعلويين والمسيحيين. هذا الشعور لا يعكس فقط غياب الأمن، بل يعكس غياب الثقة وشيوع منطق الاحتماء بالهوية و الطائفة و النسب بدل الاحتماء بالقانون.
احتكار السلاح
أكدت الأحداث الأخيرة أن محاولات السلطات لاحتواء التوتر بالانتشار الأمني السريع أو الاجتماعات العاجلة لن تكفي في ظل وجود سلاح منفلت قادر على تغيير موازين الشارع في دقائق. فالفشل في ضبط المسلحين خلال ساعات التوتر كشف حجم الفراغ الذي يملأه السلاح الأهلي والميليشياوي، وحجم الخطر الكامن في أي حادثة مشابهة مستقبلًا. معالجة هذا الواقع تتطلب أكثر من ضبط ميداني؛ فهي تبدأ بتفكيك شبكات السلاح المنتشرة في الأحياء العشائرية، والحدّ من نفوذ الحمايات المحلية، ومنع توظيف الهوية الطائفية في تفسير كل جريمة أو حادثة. ومن دون ذلك، لن تثمر أي خطوة نحو مصالحة مجتمعية حقيقية، لأن الحوار لا يمكن أن يبدأ قبل توفير بيئة آمنة يشعر فيها الجميع أن القانون و ليس الطائفة ولا العشيرة و لا النسب هو الضامن الأخير. فحمص، إذا بقيت أسيرة هذا الواقع، مهددة بأن تكون نقطة الانفجار المقبلة، وأن تتدحرج الأحداث فيها مثل كرة ثلج لا يمكن وقفها، لتترك خلفها كلفة بشرية واجتماعية قد تجعل ما جرى مؤخرًا مجرد تمهيد لما هو أشدّ وأعمق.






