الجزائر- كتب بن معمر الحاج عيسى
مقدمة
لم يكن حميد ناصر خوجة اسمًا عابرًا في المشهد الثقافي الجزائري، ولا مجرّد كاتبٍ أو شاعرٍ يضاف إلى قوائم السير الأدبية، بل كان مشروعًا فكريًا متكاملًا تشكّل عند تقاطع الثقافة، الجامعة، والالتزام النقدي العميق بأسئلة الهوية واللغة والذاكرة. بين الأخضرية والجلفة، وبين الجزائر وباريس، شقّ هذا المثقف الهادئ مسارًا شاقًا، اختار فيه أن يكون شاهدًا لا صاخبًا، ومنقّبًا لا مروّجًا، منحازًا للنص أكثر من الأضواء، وللمعنى أكثر من الشعارات. في هذا المقال، نقترب من شخصية حميد ناصر خوجة بوصفه أحد الوجوه التي أسهمت في ترسيخ ثقافة النقد والبحث الجاد في الأدب الجزائري، خصوصًا المكتوب بالفرنسية، من دون أن يفقد صلته العضوية بأسئلة الجزائر الكبرى.
أولًا: التكوين والمسار… من الإدارة إلى الأدب
وُلد حميد ناصر خوجة في 25 جانفي 1953 بمدينة الأخضرية، في زمنٍ كانت فيه الجزائر تُعيد تشكيل ذاتها بعد الاستقلال، وكانت النخبة المثقفة تبحث عن موقعها بين الدولة الناشئة والوعي الثقافي الجديد. تلقّى تعليمه في الجزائر العاصمة، وتخرّج في المدرسة الوطنية للإدارة، وهو مسار كان يوحي بمستقبل إداري صرف. غير أن الرجل، وعلى غير المتوقع، لم يكتفِ بما يتيحه المسار الوظيفي من استقرار، بل اختار أن يُعيد توجيه حياته نحو الأدب والفكر، في قرارٍ يعكس مبكرًا نزوعه إلى الأسئلة العميقة أكثر من المناصب.
انتقل إلى فرنسا، ودرس الآداب الحديثة في السوربون، ثم في جامعة مونبلييه 3، حيث أنجز شهادة الدراسات المعمقة، قبل أن يتوّج مساره الأكاديمي بأطروحة دكتوراه في الأدب المقارن حول النقد الفني عند جان سيناك، نوقشت سنة 2005. هذا المسار لم يكن تقنيًا بحتًا، بل شكّل لحظة وعي حاسمة، إذ أدرك ناصر خوجة أن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية لا يمكن قراءته خارج سياقه التاريخي والوجودي، ولا خارج مأزق اللغة الذي عاشه كتّابه بعد الاستعمار.
بعد عودته إلى الجزائر، التحق بجامعة الجلفة أستاذًا، وتولّى رئاسة معهد الأدب واللغات، حيث عُرف بصرامته الأكاديمية من جهة، وبانفتاحه الإنساني على الطلبة من جهة أخرى، جامعًا بين هيبة الأستاذ وهدوء المثقف الذي يفضّل التأثير العميق على الحضور الاستعراضي.
ثانيًا: جان سيناك… رفقة فكرية ومسؤولية نقدية
يصعب الحديث عن حميد ناصر خوجة دون التوقّف مطوّلًا عند علاقته الفكرية والنقدية بالشاعر جان سيناك. لم تكن هذه العلاقة مجرّد اهتمام أكاديمي بموضوع أطروحة، بل تحوّلت إلى مشروع وفاء معرفي طويل النفس. رأى ناصر خوجة في سيناك نموذجًا مركّبًا للشاعر الجزائري الذي كتب بالفرنسية لكنه ظلّ وفيًا للجزائر، منخرطًا في ثورتها، ومعذّبًا بأسئلتها.
اشتغل على سيناك باعتباره شاعرًا، وناقدًا، وضميرًا ثقافيًا قَلِقًا، فجمع دواوينه كاملة في مجلد واحد سنة 1999، وحرّر نصوصه، وقرأها قراءة جديدة تُنقذها من الاختزال الإيديولوجي أو التهميش الثقافي. كما ألّف كتابًا لافتًا بعنوان «ألبير كامو – جان سيناك أو الابن المتمرّد»، قدّم فيه مقاربة دقيقة للعلاقة المعقّدة بين الكاتبَين، بعيدًا عن الأحكام الجاهزة، ومقتربًا من جوهر الصراع بين الانتماء، واللغة، والذاكرة الاستعمارية.
في هذا السياق، لم يكن ناصر خوجة ناقدًا محايدًا بالمعنى البارد للكلمة، بل كان ناقدًا أخلاقيًا، يؤمن بأن استعادة سيناك هي في جوهرها استعادة لجزء من الذاكرة الثقافية الجزائرية التي كُتبت بلغة الآخر لكنها لم تكن يومًا غريبة عن الأرض.
ثالثًا: الكتابة والنقد… هدوء الأسلوب وعمق الرؤية
كتب حميد ناصر خوجة الشعر، لكن حضوره الأبرز ظلّ في مجال النقد الأدبي والدراسات الثقافية. تميّز أسلوبه بلغة فرنسية دقيقة، خالية من الزخرفة، متينة المفاهيم، تعتمد التحليل العميق بدل الانطباع السريع. لم يكن من أنصار النقد الصحفي العابر، ولا من دعاة التنظير المغلق، بل سعى إلى بناء خطاب نقدي يربط النص بسياقه، والكاتب بزمنه، دون أن يُسقط العمل في فخّ التفسير الإيديولوجي القسري.
ساهم في إنجاز «موسوعة الشعر الجزائري الجديد» إلى جانب أسماء وازنة مثل يوسف سبتي وحميد سكيف، وهو عمل يعكس إيمانه بالعمل الجماعي وبضرورة التوثيق للأجيال الجديدة. كما نشر مقالات ودراسات في الصحافة الثقافية، وشارك في ملتقيات جامعية داخل الجزائر وخارجها، مدافعًا عن فكرة أن الأدب الجزائري، بكل لغاته، يشكّل وحدة ثقافية واحدة، لا يمكن تفكيكها بمنطق الصراع اللغوي الضيق.
كان ناصر خوجة مثقفًا بعيدًا عن الضجيج، لا يظهر كثيرًا في وسائل الإعلام، لكنه حاضر بقوة في النقاشات الجادة، وهو ما منح كتاباته نوعًا من المصداقية والوقار، وجعل اسمه مرجعًا في الدراسات المتعلقة بالأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية.
رابعًا: الرحيل والإرث… ما الذي يبقى؟
في ليلة 16 سبتمبر 2016، رحل حميد ناصر خوجة بمدينة الجلفة، بعد صراع مع المرض، ودُفن في مقبرة الخضراء. كان رحيله هادئًا، على صورة حياته، لكنه ترك فراغًا حقيقيًا في الجامعة الجزائرية وفي حقل النقد الأدبي. لم يكن من السهل تعويض مثقفٍ جمع بين التكوين الأكاديمي الصارم، والالتزام الثقافي الصادق، والقدرة على العمل بصمت.
الإرث الذي تركه لا يُقاس بعدد الكتب فقط، بل بنوعية الأسئلة التي طرحها، وبالمنهج الذي دافع عنه: قراءة الأدب الجزائري بعيدًا عن الإقصاء، والاعتراف بتعدّد لغاته، وحماية ذاكرته من النسيان أو التسييس. لقد علّم أجيالًا من الطلبة أن النقد مسؤولية، وأن الجامعة ليست مجرد قاعات درس، بل فضاء لصناعة الوعي.
هكذا يبقى حميد ناصر خوجة واحدًا من أولئك الذين لم يكتبوا أسماءهم بحبر الصخب، بل نقشوها في عمق الثقافة الجزائرية، بهدوء العالم، ونزاهة المثقف، ووفاء الإنسان للكلمة.






