في لحظة سياسية مشحونة بالتأويلات والدعاية الموجهة، جاءت تصريحات بولوس مسعد، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا، لتعيد النقاش إلى جذوره القانونية والسياسية حول ملف الصحراء الغربية، ولتفكك بذكاء الأسطورة الإعلامية التي روّجت لها آلة المخزن طيلة سنوات، والتي حاولت تصوير النزاع وكأنه حُسم نهائيًا باعترافٍ أمريكيّ أو دعمٍ دوليّ مطلق لسيادة المغرب على الإقليم. مسعد، الذي يعرف دهاليز صنع القرار الأمريكي، لم يتحدث بانفعال، بل قدّم رؤية باردة ومباشرة، مؤكدًا أن بعثة المينورسو أُسّست لهدفٍ واضح هو تنظيم استفتاء لتقرير المصير، وأن تنفيذ هذا الهدف أو عدمه ليس شأنًا أمميًا منفردًا، بل قرار يعود لطرفي النزاع حصريًا، أي المغرب وجبهة البوليساريو. هذا التصريح وحده كفيل بتبديد الضباب الدعائي الذي لفّ الخطاب المغربي في السنوات الأخيرة، والذي حاول عنوةً أن يجعل من الأمم المتحدة مظلة شرعية لإلغاء مبدأ تقرير المصير واستبداله بشعار “الواقعية السياسية” التي تعني في الحقيقة تكريس الاحتلال.
لكنّ الأهم في كلام المستشار الأمريكي ليس فقط إعادة الاعتبار لفكرة الاستفتاء كأصل النزاع، بل أيضًا الإشارة إلى أنّ قرارات مجلس الأمن الأخيرة اتسمت بالمرونة والانفتاح على كل المقترحات، دون أن تنحاز إلى رؤية واحدة. هذا الاعتراف يُظهر بجلاء أن الخطاب الرسمي المغربي الذي يسوّق تلك القرارات باعتبارها “انتصارًا للدبلوماسية المغربية” هو قراءة انتقائية لا تعكس الواقع. مجلس الأمن لا يمنح صكوك سيادة، بل يبحث عن حلول توافقية تحفظ القانون الدولي وحقوق الشعوب، وهو ما تدركه واشنطن جيّدًا حين تضع “أولوياتها الخاصة” بمعزل عن “القراءة المخزنية” للمشهد. فالموقف الأمريكي، كما أوضح بولوس مسعد، تحكمه المصالح الاستراتيجية الكبرى، لا نزعة الاصطفاف العاطفي، ولذلك يبقى متميزًا عن الخطاب الإعلامي الموجه الذي يحاول إلصاق أي تصريح أمريكي جزئي بمفهوم “الاعتراف الأبدي”.
غير أن أكثر ما أزعج الآلة الإعلامية المغربية هو النقطة الثالثة في تصريحات المستشار، حين شدّد على أنّ طرفي النزاع هما المغرب وجبهة البوليساريو حصريًا، بينما الجزائر وموريتانيا دولتان مرافقتان بحكم الجغرافيا والتاريخ. هذه الجملة بدت كصفعة هادئة للمروّجين لفكرة أن الجزائر “الطرف الحقيقي” في النزاع، وهي الأسطوانة التي يكررها الإعلام المغربي كتبرير دائم لغياب إرادة سياسية حقيقية في الحوار المباشر مع ممثل الشعب الصحراوي. بولوس مسعد، وهو من قلب الإدارة الأمريكية السابقة، لم يترك مساحة للّبس: النزاع ثنائي، قانونيًا وسياسيًا، والجزائر ليست طرفًا في التفاوض إلا من باب الجوار والمساندة، كما نصّت على ذلك قرارات الأمم المتحدة منذ اتفاق وقف إطلاق النار عام 1991.
إنّ ما قاله مسعد لا يمكن قراءته خارج سياق التحولات التي يشهدها العالم تجاه النزاعات الإقليمية. فالخطاب الأمريكي الجديد، سواء في إدارة بايدن أو في الدوائر القريبة من ترامب، يميل إلى إعادة التوازن في النظر إلى قضايا تقرير المصير، بعد أن تبيّن أن سياسة الاعترافات المفاجئة لا تبني استقرارًا دائمًا. لذلك يمكن اعتبار هذه التصريحات بمثابة تصحيح ناعم للمسار، ورسالة إلى الرباط مفادها أنّ الرهان على التسويق الإعلامي لا يصنع شرعية دولية. إنّ الشرعية تُبنى عبر الحوار، والاحترام المتبادل، والعودة إلى المرجعية الأصلية التي هي حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره بحرية، كما وعدت به الأمم المتحدة مرارًا.
ولعلّ ما يثير السخرية أن الإعلام الموجّه في الرباط حاول تحويل التصريح إلى مجرد “رأي شخصي” لمسؤول سابق، بينما يعرف الجميع أنّ بولوس مسعد لا يتحدث من فراغ، وأن كل جملة منه تُقاس بميزان السياسة الأمريكية المعقّدة التي لا تسمح بخروج المستشارين الكبار عن الخطوط الاستراتيجية. فحين يقول إنّ “الاستفتاء أو عدمه قرار بين الطرفين”، فهو يقرّ ضمنيًا بأنّ الأمم المتحدة لم تسحب بعد الشرعية من فكرة الاستفتاء، وأنّ كل مشاريع “الحكم الذاتي الموسّع” التي تروج لها الرباط تظل مجرد اقتراح سياسي لا يلغي الأصل القانوني للنزاع. أما إصراره على وصف الجزائر وموريتانيا بأنهما “مرافقتان لا طرفان”، فهو تصحيح لغوي ودبلوماسي في آنٍ واحد، لأنه يسحب من يد المخزن ورقة طالما استعملها لتبرير تعنّته، ويعيد الكرة إلى ملعبه الحقيقي: طاولة الحوار مع البوليساريو لا أكثر.
من هنا، يمكن القول إنّ خطاب بولوس مسعد لم يكن مجرد تصريحٍ إعلامي، بل بيان سياسي مُشفّر أرسلته واشنطن إلى العواصم المغاربية والعالمية، مفاده أن ملف الصحراء لم يُغلق، وأنّ من يراهن على “الاعترافات الرمزية” واهم، لأن القانون الدولي لا يتغير بتغريدة أو صفقة عابرة. فالمجتمع الدولي، رغم ازدواجيته، لا يستطيع تجاهل مبدأ تقرير المصير الذي قامت عليه الأمم المتحدة ذاتها.
ولأن الخطاب المخزني يعيش على صناعة الانتصارات الوهمية، فإنّ تصريحات مثل هذه تبدو كأنها “خيانة” أو “تراجع”، بينما هي في الحقيقة عودة إلى الواقعية التي هرب منها الإعلام الرسمي طويلاً. فالمعركة لم تكن يومًا بين الجزائر والمغرب كما يصورها البعض، بل بين حقٍ دوليٍ واضحٍ وبين مشروعٍ توسعيٍ يسعى إلى تثبيت احتلالٍ بوسائل جديدة.
إنّ قراءةً دقيقةً لتصريحات بولوس مسعد تكشف أن واشنطن، رغم كل حساباتها، ما زالت تمسك بخيط الشرعية الدولية، وتدرك أن الحلّ لا يكون إلا عبر استفتاء يعبّر فيه الشعب الصحراوي عن إرادته، أو اتفاقٍ سياسيٍ شاملٍ يضمن له ذلك الحق بصورة أخرى. في كل الأحوال، الكلمة الأخيرة ليست في الرباط ولا في نيويورك، بل في العيون والداخلة، حيث يعيش شعبٌ على وعدٍ مؤجَّل منذ نصف قرن.
وهكذا، فإنّ ما اعتبره الإعلام المغربي “زلة لسان” هو في الواقع تذكير صريح بأن التاريخ لا يُشترى بالدعاية، وأنّ الحقائق مهما غابت مؤقتًا، تعود لتفرض نفسها في لحظة صدقٍ غير محسوبة. وربما لهذا السبب، سيبقى تصريح بولوس مسعد علامة فارقة في مسار هذا النزاع الطويل، لأنه ببساطة كشف ما حاول المخزن طمسه: أن الحقيقة لا تموت مهما غرق الخطاب الرسمي في إنكارها، وأنّ الصحراء ستظل مرآةً تُعرّي كل رواية لا أساس لها سوى الوهم. وبأنه لايمكن بأي حال حجب نور الحرية ..وبإن الخفافيش الظلام تهاب دائما وهج الشمس….
								
															






