حين تتحول فلسطين إلى معنى.. قراءة في مانيفيستو إياد البرغوثي الجديد

بقلم: الدكتور مازن مصطفى

شرفني الصديق الدكتور إياد البرغوثي بقراءة المسوّدة الأولى لكتابه الجديد” من فلسطين إلى الفلسطينِزِم: قولٌ في الوعي والمعنى”، فلم يكن لي ملاحظات سوى اندهاشي بحق، من ذلك التماسك الفلسفي والمنطقي للكتاب
وها قد تحولت المسوّدة إلى كتابٍ صادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عمان وبيروت للناشر الصديق ماهر الكيالي
وإن كان من المبكر كتابة مراجعة للكتاب ، إلى حين تموضعه النسبي بين يدي القراء ، والذين يسعون إلى إحاطة جديدة لمعنى فلسطين بما فرضه صمود غزة ومقاومتها الباسلة،والصدى العالمي لها،وبما تفرضه تلك الإحاطة من حركة ووعي.فإني ذاهب هنا ، فقط، إلى إضاءة على فصول الكتاب بعناوينها ،بما يشبه البيان الأوسع مما اعتاد الناشر او الكاتب من وسمه على الغلاف الخلفي.
الكتاب، ليس مجرد كتابٍ عن صراعٍ سياسي ّ بل أطروحة في تحرير المعنى كمقدمة لتحرير الأرض. ينتقل من فهم فلسطين كجغرافيا إلى فهم فلسطين كفلسفة تحررٍ أخلاقي وإنساني تقف في مواجهة الصهيونية والتطبيع والنظام العربي المنهار والوعي الثقافي المُستلب.
وبتماسك فلسفي ومنطقي كما اسلفت، يمتلكه إياد البرغوثي وهو الدارس للفلسفة وأستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح ،يوجه دعوة لإعادة تعريف مفاهيم الدولة والمقاومة والتاريخ في زمن أُختزلت فيه القضايا الجوهرية إلى مجرد تفاوض وحدود. والكاتب لا يسأل القاريء تعاطفاً بل يطالبه بوعي جيد يرى في فلسطين مرآة للشرق ومفتاحاً لفهم العالم، والنظام العالمي والحداثة والأخلاق والسياسة، فهو هنا مشروع فكر- فلسفي ،أراه يأتي امتداداً أكثر التصاقاً بالمركز كان فحوى كتابه السابق “تحرير الشرق: نحو امبراطورية شرقية ثقافية”.
الفصل الأول: فلسطين بين الدولة والقضية
يوجه فيه الكاتب النقد لاختزال النضال الفلسطيني في مشروع دولة( بمعناها الضيق) بدل أن يكون مشروع تحررٍ شامل. يطرح جدلية الداخل والخارج ويكشف تناقضاً في ” منظمة التحرير” التي مثلت الشعب الفلسطيني شكلياً لكنها فقدت الجوهر التحرري الذي انبنت اساساً عليه. ويكشف وهم ” حل الدولتين” مشيراً إلى أنه حق يُراد به باطل سياسياً وأخلاقياً، لأنه يفرغ الحق من مضمونه. والدلالة الفلسفية لهذا الفصل تطرح نفسها على شكل سؤال: هل يمكن للكيان الفلسطيني أن يولد من رحم المعادلات الدولية التي أنجبت إسرائيل وترعاها؟
الإجابة الضمنية ،لا، بالطبع، لكنها في الكتاب ستتضح بشرح مستفيض يولد سلسلة من افكار جديدة في تناول القضية.
الفصل الثاني: إسرائيل الدولة الحرام
يوضح الكاتب كيف ان إسرائيل ، تُقدّم كنموذج للدولة الحديثة المنفلتة من الأخلاق،ووصفها بالدولة الحرام يحمل بُعداً وجودياً وفلسفياً، فكأن وجودها نفيٌّ لفكرة الحق، لأنها نشأت أصلاً على باطل وجودي لا اخلاقي.فإسرائيل ليست دولة طبيعية في منظومة العالميات الدولية بل هي تشوّهٌ في المفهوم نفسه، لذا لا يمكن التعايش معها بل يجب نفيها معرفياً قبل ان تُنفى سياسياً.
الفصل الثالث:النظام العربي ومتلازمة إسرائيل.
بالفعل انها متلازمة، وصدق إياد البرغوثي في وصفه.يقدم في هذا الفصل نقداً جذرياً للنظام العربي بوصفه فاقداً للبوصلة الاستراتيجية ومصابا بالعمى الاستراتيجي. وهذا ما يضع العرب ونظامهم في خانة ” العمى الطوعي” لا الغفلة ، ويصف التواطؤ مع إسرائيل على انه انكشاف وجودي، مردُّ ذلك ، وهنا نقد سياسي وأخلاقي للنظام العربي ، أن أنظمةً لم تنشأ أصلاً من إرادة شعوبها لا يمكنها أن تساند قضايا تحرر شعبي.
الفصل الرابع: التطبيع
يضع التطبيع في سياق تحول ثقافي من الضروري أن يتفهمه القاري ليرى كيف أن التطبيع ليس فقط سياسي. ويناقش التطبيع بوصفه زواج مصلحة بين أنظمة فاقدة للشرعية وعاجزة وهي دول استعمارية في نشأتها ودورها الراهن.فالتطبيع ليس فقط خيانة سياسية بل انفصال ثقافي عن الوعي العربي ومحاولة لإعادة صياغة الذات بناء على قبول العدو ووفق شروطه.
الفصل الخامس:الشرق وفلسطين
في هذا الفصل يموضع البرغوثي المسألة الفلسطينية باكثر مركزية في مشروعه الفكري الذي طرحه في كتابه السابق” تحرير الشرق: نحو اميراطورية شرقية ثقافية”. وهنا يسائل “الشرق” بوصفه مفهوماً حضارياً وفلسطين في صلب الهوية الشرقية. وهي بالتالي ليست فقط قضية العرب بل بوصلتهم وبوصلة المشرق والعالم اخلاقياً وسياسياً. والتحرر من الاحتلال يجب ان يقترن بتحررٍ من الاستلاب الثقافي والسياسي للغرب ، لأن فلسطين ليست فقط ” أرضاً” بل مرآة للذات الشرقية.
الفصل السادس: الطوفان والوعي
واضح من العنوان تلك العلاقة بين الطوفان كتعريفٍ لما جرى من ٧ اكتوبر والى الآن، فذلك ليس بالحدث العابر بل الذي غيّر ويغيّر في الوعي . وهناك المعنى الثقافي والإنسانيّ للأحداث الذي يحاول الخطاب السياسي العربي والدولي المتحالف مع إسرائيل تغطيته والتعامي عنه. ويوجه سهام نقده لما اسماه” نيران فكرية صديقة” لمثقفين عرب ساهموا في الإساءة للوعي العربي والفلسطيني باسم العقلانية ومرات باسم العلمانية.ويستنتج أن لا خلاص سياسيا دون وعي ثقافي،والنكبة ليست فقط احتلالاً للأرض بل النكبة في المفاهيم والتصورات .
الفصل السابع: الصهيونية أعلى مراحل الامبريالية
يقدم إياد البرغوثي هنا مساهمة هي الأولى في أدبيات القضية سواء باللغة العربية او الإنكليزية . فهو يعيد بتسلسل منطقي وفلسفي وتاريخي صياغة العلاقة بين الصهيونية وتطور الرأسمالية ووصولها إلى مرحلة الإمبريالية ،ويستعرض تاريخيا نمو الترابط العضوي بين الصهيونية والإمبريالية وارتباطهما بالفاشية الغربية والليبرالية المنافقة، فالصهيونية اداة وشريك للغرب وليست فقط مشروعاً يهودياً، وهي ذروة النظام الرأسمالي الامبريالي المتوحش .
الفصل الثامن:الفلسطينِزِم
هذا عُرفُ الكتاب ومعناه،وفيه يقدم اياد البرغوثي مساهمته الجوهرية والمهمة في مشروعه الفكري، بتحويل فلسطين من جغرافيا إلى فلسفة تحرر. الفلسطينزم =منظومة فكرية أخلاقية مضادة للصهيونية ، قد تشبه الغاندوية( نسبة إلى غاندي) او المانديلاوية ( نسبة إلى مانديلا) لكنها المواجهة الأكثر عمقاً والجبهة الأكثر سخونة وفرزاً على المستويات المحلية والإقليمية والدولية ،حين الأخذ بالاعتبار ذلك التحالف العضوي بين الرأسمالية المتوحشة في آخر صورها وبين الصهيونية. ربما بهذا نفهم سرّ عالمية النضالات المؤيدة والمساندة والمشاركة للنضال الفلسطيني من كل شعوب العالم، وما المظاهرات اليومية إلا الدليل العلني للتحالف المضاد للصهيونية وحلفائها.
لهذا الفصل دلالة فلسفية -تحررية، فهذه لحظة فاصلة يقول المؤلف، لا نريد ان ” نُحلّ” في النظام العالمي بل نريد اعادة تعريفه انطلاقاً من فلسطين. إنه مانفيستو أخلاقي لتحرير العالم من خلال فلسطين.
هذا الكتاب ليس فقط في السياسة بل في أنسنة الصراع
وإياد إذ يكتب عن فلسطين ، فإنما يكتب مثلما كتب فرانز فانون عن الجزائر ومثلما فضح ادوارد سعيد الاستشراق والثقافة والإمبريالية.
تحرير الارض يبدأ من تحرير المعنى
كتبت هذا كبيان يستفز القراء ويدعوهم للقراءة لأني لم انقل هنا سوى التوضيح كبيان الناشر، وما استبطنه الكتاب هو المعنى الجديد بتماسكه المنطقي والفلسفي وهو ما اتركه للقاريء الفطن