حين تصير الأرض غريبة: سردية الخراب وحنين التراب

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين.

مقدمة:
منذ فجر الحضارات، والإنسان يتطلّع إلى قيمةٍ عليا تُنصفه وتردُّ إليه حقوقه، وتكفل له كرامته بين أبناء جنسه، تلك هي العدالة؛ الميزان الذي تُوزَن به المواقف، والميزان الذي بدونه تختلّ الحياة وتغرق الأمم في لجج الفوضى والظلم. فالعدالة ليست مجرّد شعار يزيّن الخطب والبيانات، بل هي منظومة متكاملة من القيم والممارسات، تتجسّد في المساواة الحقيقية بين الناس، وفي إتاحة الفرص العادلة لهم، وفي سيادة القانون على الجميع بلا استثناء. وهي، قبل ذلك وبعده، روحٌ تسري في مفاصل المجتمع فتشيع الأمن والطمأنينة، وتجعل من التنوع البشري مصدرَ غنى لا بؤرةَ صراع.
العدالة، في معناها الإنساني الأسمى، هي إقرارُ المساواة الكاملة بين أفراد المجتمع، دون أدنى تمييز على أساس المنزلة أو النفوذ أو الجنس أو الدين أو الانتماء العرقي. ومتى تجلّت هذه المساواة واقعاً معاشاً، تحقّق الأمن والأمان والسلام الأهلي، واستطاع المواطن أن يعيش حراً آمناً، بعيداً عن شبح الظلم والقهر والاستعباد. فالعدالة، بهذا المعنى، رؤية سامية تُشيّد توازناً راسخاً بين الحقوق والواجبات، وتُسنّ لتحقيقها التشريعات والقوانين بيد خبراء مختصّين، بعيداً عن التدخلات أو الإملاءات التي تحرفها عن مقاصدها.
غير أن واقعنا العربي كثيراً ما يكتفي، عند الحديث عن العدالة، بصيغٍ شكلية للتراضي بين الأفراد والجماعات، تكتنفها مظاهر الخداع والمجاملة والنفاق الاجتماعي. وتحت هذه القشرة الوديعة، تتوارى نزعات التسلط والتمييز، فيستمر التهميش والاحتقان، وتتجدّد أسباب النزاعات الطائفية والمذهبية والعشائرية، وقد تنفجر أحياناً في شكل حروب أهلية مدمّرة.
ولئن كان التراث العربي والإسلامي زاخراً بالمواعظ التي تمجّد العدل، فإننا غالباً ما اختزلنا العدالة في شخص الحاكم العادل، أو في تطبيق الشريعة فحسب، وأهملنا البنية النظرية والمؤسسية التي تكفل وجود العدالة واقعاً ملموساً في حياة الناس اليومية. وهنا تكمن المفارقة: فالمجتمعات لا تزدهر بمجرد الشعارات أو المثاليات، بل عبر مؤسسات راسخة تحمي المساواة، وتوزّع الثروة بعدل، وتضمن حرية الرأي والتعبير، وتكفل استقلال القضاء، وتكرّس شرعية القوانين، وتحقق تداول السلطة بعيداً عن الاحتكار والاستبداد.
إن العدالة التي ننشدها ليست مجرد امتناعٍ عن ممارسة الظلم، بل منظومة تردع الظلم قبل أن يقع، وتُزيل أسبابه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وهي عدالة تجعل من التنوع الديني والمذهبي والعرقي والثقافي مصدرَ قوّة وإبداع، لا شرارةَ فرقة وصراع. وعدالة كهذه تستند إلى المساواة في الحقوق والواجبات، وفي الفرص الحياتية والعملية، وتحارب الفوارق المفرطة بين الغنى والفقر، وترسّخ التكافل الإنساني، وتبني علاقة متوازنة بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
بهذه الصيغة، تتحوّل العدالة إلى جسرٍ نعبر به من واقع المجاملات الزائفة إلى واقع العيش المشترك الصادق، حيث تتآلف القلوب كما تتساوى الحقوق، وحيث تُستأصل من النفوس بذور الحقد والكراهية، لتحل محلّها المودة والاحترام. وهي عدالة تتناغم مع مقاصد الشرائع السماوية وتكمّل عدالتها الإلهية، إذ أن الله تعالى هو العدل المطلق والسلام الذي تطمئنّ إليه الأرواح.
— خاتمة
إنَّ العدالة ليست قانوناً جامداً يُساق على الورق، ولا قراراً عابراً يُملى من فوق، بل هي روحٌ عليا تتخلّل الكيان الإنساني، فتسمو به عن نزعات الأنانية والاستبداد. إنّها فضيلة تتجاوز حدود الدولة إلى أعماق الضمير، وتغدو في جوهرها تجلّياً من تجلّيات الحقيقة التي أرادها الخالق للإنسان، ليكون خليفةً في الأرض بالعدل لا بالظلم.

فالعدل هو المعادل الموضوعي للحرية، وهو الشرط الضروري للسلام الأهلي، وهو القوّة الخفية التي تحفظ للمجتمعات توازنها، كما تحفظ الشمس للكون ضياءه. وحين تغيب العدالة، يصبح المجتمع مسرحاً للأحقاد والصراعات، أما حين تُرسَّخ في القوانين والعقول معاً، فإنّها تفتح أمام الإنسان أبواب المحبة والتسامح والتكافل.
وبذلك، فإنّ العدالة الحقّة ليست مطلباً سياسياً أو اجتماعياً فحسب، بل هي قدرٌ إنساني وروحي، وشرط من شروط الاستخلاف في الأرض، ومفتاح من مفاتيح العمران البشري. ومن دونها يذوي كل بناء، ومعها وحدها يزدهر المجتمع، وتشرق الروح بطمأنينةٍ لا يفسدها ظلم ولا يقهرها جور، لأنّ العدل من أسماء الله الحسنى، وهو جوهر السلام وذروة الكمال.