في لحظات التاريخ المنكسر، حين يشتد البلاء وتستفحل الغُمّة وتضيق فسحات البصيرة، لا يتقدم العقلاء، بل يندفع السفهاء إلى الواجهة، وتتصدع بنية الخطاب لتفسح المجال لحشود الثرثارين والدهماء. في مثل هذه اللحظات، كما أشار جورج أورويل، لا يصبح الكذب شائعاً فحسب، بل يُعدّ قول الحقيقة ضرباً من التطرّف.
تتسارع الرداءة إذ تتعدد وجوه “الحكمة الزائفة”، وتنمو الطفيليات المعرفية، فيغدو كل أبله متفذلكاً، وكل ساذج منظّراً، وكل بليد معلّماً للأخلاق. في أزمنة كهذه، يستفزّك أن ترى المذمّة تأتي من جاهل، والسخرية من سطحي، والتقريع من بوق أجوف. لقد وصف سقراط هذه الحال حين قال: “حين تسكت العقول، تتكلم الأجساد الفارغة”. فالعقل الصامت ليس غياباً للحضور، بل إضراب نبلٍ عن المشاركة في مهرجان الابتذال.
يتكرر هذا المشهد الكاريكاتوري في التاريخ، حيث يشهد الانحدار الفكري صعود ما سماه إريك فروم “العقل الأداتي”، أي العقل الذي يُفرغ من قيمته النقدية ليُستخدم فقط في التبرير والتسويغ. عندها تتحول الفكرة إلى شعارات، وتُبتذل الأسئلة العميقة، ويُهان الشك بوصفه “ترفاً نخبويّاً”، رغم أنه كما قال ديكارت: “الشك هو بداية الحكمة”.
في واقع كهذا، يصبح من المعتاد أن يُهاجم النبلاء، وأن يُتّهم المفكرون بالكفر أو الخيانة أو العدمية، لأنهم رفضوا أن يُنشدوا مع الجوقة. إنَّ صوتهم المختلف يُقلق النسق السائد، ولهذا يُستهدفون. وكأن الزمن يسير على ما وصفه ابن المقفّع: “إذا لم يكن للجاهل حرمة، جعل الفاضل هدفاً لسخريته”.
لقد كتب بول ريكور عن “ثقافة التبسيط”، وهي تلك التي تختصر كل تعقيد في ثنائية بلهاء: صواب وخطأ، معنا وضدنا، جيد ورديء. وفي ظل هذه الثقافة، لا مكان للرمادي، ولا للتأويل، ولا للعمق، بل يزدهر خطاب السطحية والشعارات الرنانة، ويتقدّم “الثرثارون ذوو الحبال الصوتية القوية” كما سماهم بيير بورديو.
في مثل هذا الجوّ، لا يغدو الصراخ ضد العقل موقفاً شعبوياً فحسب، بل استراتيجية للبقاء، حيث تُقصى الفلسفة بوصفها “عقيماً”، ويُختزل الأدب في “خواطر”، ويُحوّل التاريخ إلى مرويات تافهة يلوكها العامة في منصات مبتذلة. هنا يعود كلام إميل سيوران مريراً: “في بلادٍ تموت فيها الفلسفة، يُدفن العقل قبل الجسد”.
لقد تنبّه غوستاف لوبون إلى خطورة تحكّم الجماهير في المشهد، حيث “تتغذى الدهماء على الانفعال لا البرهان، وعلى العواطف لا الحجج”. وعندها يُقصى كل من يُفكّر ببطء، أو يُمعن النظر في التفاصيل، لصالح من يتكلم كثيراً ولا يقول شيئاً. هكذا تتدلى ألسنة الحمقى، وترتفع هتافات الجموع ضد الشك، وضد النبل، وضد الفكر.
أنطونيو غرامشي عبّر عن هذه الحالة بقوله: “حين يفقد العقل سلطته، يحتلّ المكان من هم دون العقل”. وهكذا تُفتح الأبواب للعشوائية، وتُعلن النهاية المؤقتة للتمييز بين الحكمة الحقيقية والثرثرة المضللة.
ومع ذلك، لا يجوز أن يُستسلم. فكما أشار كانط، فإن الاستنارة لا تعني المعرفة فقط، بل “التحرر من القصور الذاتي”، وهي دعوة دائمة لتحمّل مسؤولية الفكر. وفي خضمّ هذا الصخب، يظلّ المثقف الحقيقي، وفق توصيف إدوارد سعيد، هو “المنفي في الداخل”، منبوذ من الثقافة السائدة، لكنه يحتفظ بكرامة العقل وحرية الضمير.
إن النبالة ليست خطاباً رومانسيّاً، بل مقاومة معرفية للرداءة. والصمت في حضرة الحمقى ليس ضعفاً، بل كما قال فريدريش هولدرلين: “سكوت الحكيم احتجاجٌ على ضوضاء الطبول الجوفاء”.
في الختام، نعيد التذكير بما قاله هيغل: “إن البومة لا تطير إلا عند الغسق”، أي أن الفلسفة لا تنهض إلا حين يغيب النور. وعليه، فإن انهيار المعنى، واحتفال البلادة، ليس إلا إيذاناً بمخاض جديد، يولد فيه العقل مجدداً، لا ليُطأطئ الرأس، بل ليرفع راية التمييز وسط جلبة القطيع.
