في محطات التحوّل المصيرية في حياة الشعوب، لا يكفي امتلاك السلاح أو تكرار الشعارات الوطنية، ما لم يصاحبه مشروع سياسي ناظم ورؤية استراتيجية جامعة. فحين تغيب القيادة عن أداء دورها التاريخي، لا تبقى الساحة فارغة، بل تصبح مجالًا مفتوحًا أمام خصوم الداخل والخارج لإعادة تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي وفق مصالحهم. هذا هو جوهر الخطر الذي يتهدد الواقع الفلسطيني اليوم: الاحتلال لا يكتفي بالقوة العسكرية، بل بات يستثمر في تفكيك البنية الوطنية، عبر إنتاج “نماذج قيادية” محلية مصطنعة، تتحدث بلسان الشعب، لكنها تخاطب العدو وتُدار من غرفه الأمنية.
لم تعد أدوات السيطرة الصهيونية تقليدية. نحن أمام بنية استعمارية حديثة تتقن اختراق المجتمعات من الداخل، لا عبر السلاح فقط، بل من خلال كيانات تمثيلية بديلة تُفصّل على مقاس المصلحة الإسرائيلية. يجري تسويقها بخطاب محلي، مغمّس بلغة الوطنية، في حين تنفذ أهدافاً معاكسة تماماً لجوهر المشروع التحرري الفلسطيني. ما يُقدَّم على أنه حراك اجتماعي مستقل أو “مبادرة عشائرية” ليس إلا نتيجة مباشرة لسياسات الاحتلال في خلق قنوات التفافية على القيادة الشرعية، وتفكيك البنى السياسية الحقيقية.
التحولات الجارية في بعض المحافظات لا تنبع من فراغ، ولا تُفسَّر على أنها مجرد اجتهادات محلية أو حالات غضب معزولة. بل هي تعبير واضح عن مخطط صهيوني مركّب، يعمل على إعادة صياغة تمثيل الفلسطينيين من خلال وكلاء محليين بملامح فلسطينية، يمارسون دور “نواطير سياسيين”، لا ارتباط لهم بالهمّ الوطني، بل بمصالح مموّليهم في تل أبيب، وربما عواصم إقليمية أخرى. هؤلاء لا يتحركون خارج السياق، بل ضمن هندسة أمنية دقيقة تستثمر في فراغ الشرعية، وتوظّف المظلومية الشعبية لخدمة أجندات الاحتلال، تحت ستار “الحل” و”الإصلاح”.
الخلل هنا لا يقتصر على تمدد هذه القوى الظلية، بل في القصور البنيوي الذي أصاب القيادة الوطنية نفسها. إذ بدلاً من أن تبادر إلى احتواء الشارع وإعادة تجديد أدوات تمثيلها، انساقت في دوامة من النزاعات الداخلية، وتغوّل البيروقراطية، والتناحر الفصائلي، ما جعلها منفصلة عن نبض الشعب، فاقدة لزمام المبادرة. وفي ظل هذا التآكل في الحضور السياسي والاجتماعي للمؤسسات التمثيلية، تحوّل بعض الطارئين إلى ناطقين باسم الناس، مستغلين الغضب واليأس، ليطرحوا أنفسهم بدائل خادعة، دون مشروع تحرري، بل كواجهة لأجندات خارجية.
خطورة ما يجري لا تكمن فقط في كونه انحرافاً عن المسار الوطني، بل في كونه انقلابًا على جوهر الهوية الفلسطينية الجامعة. فحين تصبح العشائرية بديلاً عن الوطنية، وحين يُستخدم الخطاب الديني أو الاجتماعي لتبرير التنسيق الأمني أو التسويات الهزيلة، فإننا نكون أمام لحظة خطيرة من التشظي الوجودي، لا السياسي فقط. والمفارقة أن من ينادون اليوم بإدارات محلية “مستقلة” أو “نماذج بديلة للقيادة”، لا يسعون لخدمة الناس، بل لإعادة تعريف الفلسطيني كفرد منزوع من سياقه النضالي، قابل للترويض، وباحث عن خلاص فردي على حساب الذاكرة الجمعية والمصير الوطني.
الاحتلال يدرك جيدًا أن السيطرة الكاملة على الأرض تمر عبر إعادة هندسة الوعي. لهذا لا يكتفي بتوسيع الاستيطان أو تقطيع الجغرافيا، بل يعمل على تفكيك البنية الرمزية للمجتمع الفلسطيني، عبر إغراقه في مشاريع وهمية، يُروَّج لها كحلول، بينما تُستخدم كأدوات لتفريغ النضال من مضمونه. كل هذا لا يمكن أن ينجح لولا العجز القيادي، والتكلس المؤسسي، وغياب الإرادة في إعادة تأسيس عقد سياسي جديد يعيد ربط القيادة بالشارع، لا من منطلق التحكم، بل من باب الشراكة والمساءلة والتجدد.
المرحلة تستدعي جرأة في النقد ومصارحة في التقييم. فالقيادة ليست امتيازًا دائمًا، بل مسؤولية متجددة تستوجب شرعية دائمة تُكتسب عبر البذل، لا تُحتكر بالوراثة أو الانتماء التنظيمي. وما لم تدرك القيادات الوطنية أن الشارع لم يعد يكتفي بالرموز، بل يطلب الإنجاز والحضور، فإن مزيدًا من الفراغ سيفتح المجال لقيادات مشبوهة تتسلل من رحم التنسيق الأمني و”الدعم الخارجي” لتعيد صياغة فلسطين بوصفات استعمارية بواجهة محلية.
التحذير هنا ليس خطابًا شعبويًا، بل توصيف لحالة تتبلور أمام أعيننا: تحول فلسطين إلى سوق مفتوح للمناورات السياسية والمشاريع البديلة، بأسماء فلسطينية ولهجات مألوفة، لكنها بأجندات دخيلة. والرهان الصهيوني في هذا المسار ليس فقط على القوة، بل على هشاشة النظام السياسي الفلسطيني، وانشغاله بصراعاته الصغيرة على حساب القضية الكبرى.
إن مسؤولية استعادة المبادرة تقع أولاً على عاتق القوى الوطنية الحقيقية، التي ما زالت تملك بقايا الشرعية الشعبية والتاريخ النضالي. وهي مطالبة اليوم لا فقط بالتصدي للوكلاء الجدد، بل بإعادة بناء الثقة، وتجديد أدوات العمل السياسي والاجتماعي، بما ينسجم مع تطلعات الناس ويعيد تعريف العلاقة بين القيادة والجماهير. ففي مواجهة الاحتلال، لا يمكن الانتصار بخطاب ماضوي أو بإدارة نفعية، بل برؤية شاملة تقطع مع منطق المحاصصة والفئوية، وتعيد الاعتبار للهوية الوطنية بوصفها مشروعًا تحرريًا جامعًا لا يخضع للمساومة أو التنازل.
وفي النهاية، فإن من يسعى لنزع الشرعية عن القضية الفلسطينية تحت ستار “الإدارة الذاتية” أو “التمثيل المحلي”، إنما يهيئ الأرض لتمدد الاحتلال بصيغ ناعمة. وكل من يتواطأ مع هذا المسار، صراحة أو مواربة، إنما يسجل اسمه في خانة الخيانة، مهما تجمّل بلغة الوطنية. ففلسطين لا تحتاج إلى وسطاء ولا وكلاء، بل إلى قيادة تعبّر عن نبض شعبها، وتقاتل من أجل حريته، لا من أجل كراسي فارغة أو مناصب وظيفية على بوابة العدو.