“حين تُهان حقوق الأسرى والجرحى والشهداء … تُهان كرامة الوطن بأكمله”

بقلم: الأسير المحرر محمد التاج

لم يكن الفلسطيني يوما يخشى الجوع، بل كان يخشى أن يجوع وهو صامت. ولم يكن الأسير يتألم من القيود بقدر ألمه من فكرة أن يُنسى خلف الأسوار، تُنسى تضحياته، وتُمحى من ذاكرة الوطن دموع أمه التي انتظرت باب السجن عشرات السنين. اليوم، نقف أمام لحظة أخطر من الرصاصة، وأعمق من الجرح، لحظة يُقطع فيها مخصصات الأسرى والجرحى وعائلات الشهداء، ويُحال ملف تضحياتهم إلى “مؤسسة تمكين” تحت عنوان الفقر والحاجة، وكأن الوطن قد فقد ذاكرته، وكأن الدم الذي سُفك لأجله صار مجرد حالة اجتماعية ضمن سجلات المساعدات.

هل يُعقل أن يتحول من ضحى بحريته إلى “ملف معونة” ؟ هل يُعقل أن يُختزل الشهيد الذي صعدت روحه لله وهو يصرخ “فلسطين” إلى رقم في جدول اقتصادي؟ إن ما يجري اليوم ليس أزمة مال، بل أزمة وفاء. ليست مسألة عجز مالي، بل عجز أخلاقي ووطني، حين يصبح الأسرى الذين علمونا معنى الصمود وذوو الشهداء مهددين في قوت أطفالهم، بينما ملايين الدولارات تُهدر في الموائد والسفريات.

أنا محمد التاج، أسير محرر، عشت الزنزانة وخرجت منها بجسد أنهكه القيد لكن بروح لم تنكسر. أعرف كيف يلسع البرد جدران السجن، وأعرف كيف ينكسر الليل على صرخة أم تنتظر ابنها الأسير. تحررت، لكن قلبي ما زال هناك، في الممرات الضيقة، حيث يمشي رفاقي مكبلي الأيدي ورؤوسهم مرفوعة.

نحن الأسرى المحررون نعرف الثمن الذي دُفع لأجل هذه البلاد، نعرف معنى أن تفقد حريتك ولا تفقد كرامتك. لذلك حين نرى ملف الأسرى والشهداء والجرحى يُرحل إلى مؤسسة “تمكين” كما لو أنه ملف فقر لا ملف نضال، فإننا نرفض بصوت من ذاق القيد وعاد إلى الضوء. الأسرى والجرحى ليسوا بحاجة “تمكين اقتصادي”، بل تمكين وطني، تمكين قانوني، تمكين اجتماعي يعيد الاعتبار لهم كمقاتلين من أجل الحرية، لا كضحايا للفقر. هؤلاء ليسوا متسولين على أبواب السياسة، بل هم أصحاب البيت، ومن حقهم أن يبقوا في صدر المعادلة الوطنية.

لقد تم نقل الملف إلى مؤسسة “تمكين” وكأننا امام حالة اجتماعية تحتاج تدريبا مهنيا أو قرضا صغيرا، الأسرى ليسوا مشروعا اقتصاديا، ولا بندا يمكن تحويله من وزارة إلى مؤسسة. إنهم ضمير الوطن، وهؤلاء الجرحى لم تنزف أجسادهم في مصنع أو ورشة، بل في ساحات المواجهة، على بوابات المخيمات، وتحت جنازير الدبابات. وهؤلاء الأطفال الذين استشهد آباؤهم ليسوا أيتام دولة، بل أبناء راية … راية اسمها فلسطين.

إن ما يُحاك اليوم، هو محاولة خطيرة لفصل الذاكرة عن الدم، وتحويل القضية من “حقّ وواجب وكرامة” إلى “عوز ومعونة  ”. هذا القرار لا يمكن أن يمر لأنه ليس قرارا إداريا، بل قرار بسحب الشرعية من تضحياتنا. وإن قلنا نعم اليوم، فإننا سنقول غدا لأبنائنا: “اعذرونا، الوطن تعب، والكرامة أصبحت مكلفة”.

وفي الوقت الذي تُقطع فيه حقوق الأسرى وذوي الشهداء، ما تزال إسرائيل تحتجز أموال المقاصة الفلسطينية وتستخدمها سيفا مسلطا على رقاب شعبنا وقيادته، ما يكشف زيف الادعاءات بأن الأزمة المالية مرتبطة بمخصصات الأسرى والشهداء والجرحى، بل يؤكد أنها أزمة إرادة. ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني سيبقى الدرع الحامي لأسرانا وعائلاتهم، وأن أي محاولة للمساس بحقوقهم ستواجه برفض وطني شامل.

وأختم بما قلته يوما لسجان وأنا خلف القضبان، وما زلت أؤمن به بعد أن تنفست هواء الحرية: يمكنكم أن تمنعوا الطعام والضوء، يمكنكم أن تغلقوا الأبواب، لكنكم لن تستطيعوا أن تمنعوا الفلسطيني من الوقوف إذا شعر أن كرامته تُهان.

قد تُقطع المخصصات، لكن لا يستطيع أحد أن يقطع جذور الانتماء، ولا حنجرة الأمهات اللواتي يهتفن “بالروح بالدم نفديك يا أسير”.

قد تُنقل الملفات إلى مؤسسات، لكن ملف الكرامة سيبقى في قلوب الناس، في ذاكرة المخيم، في رائحة ملابس الشهيد التي لم تجف بعد.

 

الحرية للأسرى، الكرامة للجرحى وعوائل الشهداء، والمجد للشهداء.