حين ينهض العقل: في معنى الأمة، والإنسان، ومعركة الوعي

بن معمر الحاج عيسى

ليس أخطر على الأمم من عدوٍّ يتسلّل إلى عقولها قبل حدودها، ولا أفتك بها من وهنٍ يبدأ فكرةً ثم يستحيل عادةً ثم يُغدو قدرًا يُسلَّم به وكأنه من نواميس الطبيعة، والأمم لا تُقاس بما تملك من أرضٍ ولا بما تُحصيه من عدد، وإنما تُقاس بما تُحسن التفكير فيه، وبما تُجيد الدفاع عنه حين يُمتحن عقلها قبل سلاحها، لأن السلاح بلا عقل أداة عمياء، والعقل بلا مبدأ حيلة فارغة، وما التاريخ إلا سجلٌّ طويل لانتصار الفكرة حين تحملها أمة، وانكسار الجموع حين تسير بلا بوصلة فكرية. إن الأمة التي تفقد ثقتها بعقلها تُعير عقلها لغيرها، ومن استعار عقله عاش تابعًا ولو جلس على عرش، ومن صان عقله عاش حرًّا ولو ضاقت به السبل. وليس الوعي ترفًا ثقافيًا كما يتوهم الكسالى من حملة الشعارات، بل هو شرط الوجود الكريم، وركن السيادة الأول، ومن هنا تبدأ معركة الإنسان الحقيقية: معركة أن يفهم قبل أن يندفع، وأن يُميّز قبل أن يُصفّق، وأن يسأل قبل أن يُسلّم. إن الإنسان الذي يُربّى على الطاعة العمياء يُحسن الانحناء ولا يُحسن الوقوف، أما الذي يُربّى على السؤال فإنه قد يُخطئ مرة، لكنه يتعلم ألف مرة، والخطأ المتعلَّم خير من صوابٍ مفروض، لأن الصواب الذي لا نفهمه يسقط عند أول ريح، بينما الفكرة التي نُجادل من أجلها تتجذر في النفس وتستعصي على الاقتلاع. ولقد ابتُلي عصرنا بضجيجٍ يختلط فيه الصوت بالفكرة، وتُقاس فيه الآراء بعدد مروّجيها لا بوزنها العقلي، حتى صار كثير من الناس يظنون أن الإجماع صواب، مع أن التاريخ يُعلّمنا أن الإجماع كثيرًا ما كان إجماع خوف أو كسل أو جهل، وأن القلة المفكرة هي التي غيّرت مجرى الحضارات، لا الكثرة المصفقة. إن العقل الحرّ لا يعادي الجماعة، لكنه يرفض أن يذوب فيها ذوبان الملح في الماء، لأنه يعلم أن الجماعة بلا عقلٍ ناقد تتحول إلى قطيع، والقطيع لا يصنع تاريخًا بل يُساق إليه. وما الأمة إلا مجموع أفراد، فإذا صلح فكر الفرد ارتفع منسوب الوعي العام، وإذا فسد فكر الفرد تكدّست الأوهام حتى تغدو ثقافة سائدة تُدافع عن نفسها باسم العرف أو الهوية. ومن أكبر الأوهام أن نخلط بين الهوية والجمود، فالهويّة كائن حيّ ينمو ويتفاعل، لا حجرٌ يُعبد ولا صنمٌ يُخشى الاقتراب منه، ومن ظنّ أن حماية الهوية تكون بتحريم التفكير فقد حكم عليها بالموت البطيء، لأن ما لا ينمو يذبل، وما لا يناقَش يتحجّر، وما يتحجّر يتكسر عند أول صدمة. إن الأمم القوية لا تخاف من الأسئلة، بل تخاف من غيابها، لأن السؤال بداية الوعي، والوعي بداية التحرر، والتحرر شرط الإبداع، والإبداع هو الذي ينقل الأمة من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التبعية إلى الفعل. ولقد علّمنا التاريخ أن الاستعمار حين يخرج من الأرض يحاول أن يبقى في العقول، وأن أخطر أشكال الهيمنة هي تلك التي تجعل المهزوم يُدافع عن هزيمته بوصفها واقعية، ويُبرر ضعفه بوصفه حكمة، ويُجمّل عجزه بلغة العقل، مع أن العقل الحق لا يُبرر العجز بل يُحلله ليُجاوزه. إن الواقعية التي لا تحمل مشروعًا ليست إلا استسلامًا مقنّعًا، والحكمة التي لا تفضي إلى عمل ليست إلا حيلة لغوية، والعقل الذي يكتفي بالتفسير ولا يطمح إلى التغيير عقلٌ ناقص الوظيفة. وليس المطلوب من الإنسان أن يكون ثائرًا دائمًا، ولا هادمًا لكل قائم، بل أن يكون واعيًا بما يقبل وبما يرفض، لأن القبول الأعمى لا يقل خطرًا عن الرفض الأعمى، وكلاهما وجهان لغياب التفكير. إن أخلاق الأمم لا تُقاس بما ترفعه من شعارات، بل بما تُمارسه من عدل، والعدل لا يقوم إلا على وعيٍ بحقوق الإنسان وواجباته معًا، لأن الحقوق بلا واجبات أنانية، والواجبات بلا حقوق عبودية، والأمة التي لا تُوازن بينهما تُنتج إما طغاة أو عبيدًا، وكلاهما عدوّ للحضارة. ومن هنا فإن بناء الإنسان يسبق بناء العمران، لأن الحجر إذا ارتفع بلا وعي سقط على رؤوس أصحابه، أما الإنسان الواعي فيستطيع أن يبني من القليل كثيرًا، ومن الهزيمة درسًا، ومن الألم طاقة، لأن العقل الحرّ لا يرى في المحنة نهاية بل بداية فهم. ولئن كثر في زماننا الحديث عن التنمية والتقدم، فإن أخطر ما يُغفل في هذه الأحاديث هو تنمية العقل النقدي، لأن التنمية التي لا تُحرر التفكير تُراكم الأدوات في يد عقلٍ تابع، فتتحول الأدوات إلى قيود جديدة بدل أن تكون وسائل تحرر. إن النهضة الحقيقية لا تبدأ من المصنع ولا من السوق، بل من السؤال البسيط: لماذا نحن هنا؟ وكيف نُريد أن نكون؟ ولمن نُفكر؟ لأن الفكر الذي لا يُحدد غايته يتحول إلى ترفٍ لغوي، واللغة حين تنفصل عن الفعل تصبح زخرفة للعجز. وليس في الدعوة إلى العقل دعوة إلى القطيعة مع الإيمان أو القيم، بل هي دعوة إلى إيمانٍ واعٍ لا يخاف من التفكير، وإلى قيمٍ حية لا تحتاج إلى سوطٍ لحمايتها، لأن القيم التي لا تصمد أمام السؤال لا تستحق أن تُورث، والإيمان الذي يرتعد من العقل إيمان هشّ، بينما الإيمان العميق يزداد رسوخًا كلما ازداد فهمًا. إن معركة الوعي اليوم ليست معركة كتبٍ تُقرأ فقط، بل معركة تربيةٍ تُمارس، وإعلامٍ يُحاسَب، ونخبةٍ تتحمل مسؤولية الكلمة، لأن الكلمة حين تخرج من عقلٍ كسول تُخدّر، وحين تخرج من عقلٍ حرّ تُحرّض على التفكير، والفرق بينهما هو الفرق بين أمةٍ نائمة وأمةٍ يقظة. ولعل أخطر ما يُصاب به مجتمع هو أن يعتاد الرداءة، لأن الاعتياد يُميت الحسّ، ومن مات حسّه قبل عقله عاش بلا كرامة وهو يظن أنه يعيش. إن الكرامة ليست في رفع الصوت، بل في وضوح الفكرة، وليست في كثرة الاتباع، بل في صدق الموقف، وليست في الهجوم الدائم، بل في القدرة على الدفاع العقلي المتماسك. وهكذا، فإن الأمة التي تريد مكانها تحت الشمس لا بد أن تُعيد الاعتبار للعقل بوصفه أداة فهم وتغيير، لا وسيلة تبرير وتزيين، وأن تُربي أبناءها على التفكير لا على التلقين، وعلى السؤال لا على الخوف، لأن الخوف لا يصنع إلا حاضرًا ضيقًا، أما العقل الحرّ فيصنع مستقبلًا واسعًا، ومن لا يُحسن التفكير في حاضره لن يُحسن العيش في مستقبله، وتلك هي خلاصة المعركة كلها: أن ننهض بالعقل، لأن العقل إذا نهض نهضت معه الأمة كلها.