حين يُعلَن “الانتصار” فوق الركام

بقلم: محمد العايدي

لم تعد الكلمات تكفي لتغطية عمق الجرح الفلسطيني، ولا الشعارات قادرة على إقناع طفل فقد أهله بأن الحرب التي أكلت الأخضر واليابس كانت “انتصارًا”. من السهل أن يُعلن القادة انتصارًا من خلف المنابر، لكن من الصعب أن يُقنعوا أمًّا تبحث عن جثمان ابنها تحت الركام بأن هذا الخراب كان طريق المجد.

الحرب التي شهدها العالم لم تكن كسابقاتها، لا من حيث حجم الدمار ولا من حيث عمق المأساة الإنسانية. مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمشردين، ومدن محيت من الوجود، وبنية تحتية انهارت بالكامل. فهل هذا ما يُسمّى انتصارًا؟ أم هو درسٌ مرّ في الحسابات السياسية والأخلاقية لكل من رفع راية المقاومة دون أن يحسب ثمنها الإنساني؟

لا شك أن الشعب الفلسطيني أبدى صمودًا أسطوريًا. هذا الصمود لا يُقاس بالنتائج العسكرية بل بقدرة الناس على البقاء رغم كل آلة الحرب. ولكن بين “الصمود” و”الانتصار” مسافة من الصدق والوعي. المنتصر لا يخرج من تحت الأنقاض يبحث عن لقمة أو دواء. المنتصر لا يهاجر نصفه إلى المجهول ولا ينام على رماد وطنٍ منكوب.

الانتصار الحقيقي ليس في أن يُقال إننا صمدنا، بل في أن نحمي أرواح الناس، ونبني مشروعًا وطنيًا جامعًا، ونُفشل مخططات العدو بالوحدة لا بالتفرّق. الانتصار لا يكون في بيانات النصر ولا في صور المفاوضين على الشاشات، بل في بناء إستراتيجية تحفظ الأرض والإنسان والكرامة معًا.

من يتحدث اليوم عن “نهاية الحرب” وكأنها ملحمة من ملاحم التاريخ، عليه أن يجيب: ماذا عن غزة التي لم تعد كما كانت؟ ماذا عن مئات الآلاف من الأسر التي تعيش بين الأنقاض؟ ماذا عن الأفق السياسي المسدود والملف الإنساني المفتوح؟
الكلمات لا تبني وطنًا، والخطب لا تُعيد شهيدًا، ولا تُطبّب جريحًا.

لقد آن الأوان أن نفرّق بين بطولة الشعب وخطاب الانتصار الزائف. الشعب قاتل وصمد ودفع الثمن، بينما يحقّق السياسيون مكاسب في التصريحات أكثر مما يحقّقونه على الأرض. الانتصار، إن كان ثمة انتصار، فهو للناس الذين بقوا رغم كل شيء، لا لمن اعتلوا المنابر بعد أن هدأ صوت المدافع.

إن أكبر خيانة للتضحيات أن نُزيّف الحقيقة باسم البطولة، وأن نرسم المجد على حساب المأساة.
الانتصار الذي يُبنى على الألم بلا مراجعة، يتحول إلى هزيمة مؤجلة.
والشعب الذي لا يُحاسِب من يتحدث باسمه، سيبقى يدفع الثمن وحده، في كل جولةٍ قادمة من “الانتصارات الوهمية”.