خرائط الوهم ودم الحقيقة: العرب في زمن التراجيكو–ميديا:

بقلم : عماد خالد رحمة _ برلين.

وصل واقعُنا العربي الأليم حدًّا لا يُوصَف من البؤس والقهر والتشتّت والحرمان، بدءًا من حرب الإخوة الأعداء التي يضيع فيها الفاصل بين الجلّاد والضحية، وبين دم القاتل ودم القتيل، وليس انتهاءً بتناقضاتٍ وتشابكاتٍ ومفارقاتٍ سياسيةٍ متتابعة، لها استطالاتها العمودية والأفقية، المتراصّة والمتلاحقة كالدومينو.

حيث يعود الأكاسرةُ والأباطرةُ والقياصرةُ وملوكُ الحرب وأمراؤهم، لكن بثيابٍ تنكّرية زاهية ملوّنة، ويرطنون بلغةٍ جديدةٍ تليق بعصر العولمة وفقه التضليل، المدجَّج بمفاهيم الوهم، والذي يُنتج أنماطًا من الشخصيات: الشخصية السويّة، والشخصية اللاسويّة، وتأثيرها الخطير في المجتمع، كما يُنتج الشخصية السيكوباتية، أي “شخصية الشيطان على الأرض”، والشخصية البارانوية التي تشكّ بكل الناس.

لكن ليس معنى ذلك أنّ الحدود قد حُذفت بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، بل لأنّ التضاريس كلّها مغطّاة بالغبار والدخان والوهم، ولهيب النيران ورمادها.
وثمّة من يرطنون بنهاية التاريخ، أمثال العالم والفيلسوف والاقتصادي السياسي فرانسيس فوكوياما، أمريكي الجنسية ياباني الأصل، صاحب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير الصادر عام 1992، والذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية، ولاحقًا اقتصاد السوق الحر، في جميع أنحاء العالم، قد يشير إلى نقطة نهاية التطوّر الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان.
كما رطن قبله البروفيسور والعالم والسياسي الأمريكي صاموئيل فيليبس هنتغتون، وهو مفكّر محافظ، وصفته جامعة هارفرد بأنّه معلّم جيلٍ من العلماء في مجالات متباينة على نطاق واسع، وأحد أكثر علماء السياسة تأثيرًا في النصف الثاني من القرن العشرين. وأكثر ما عُرف به عالميًا أطروحته الموسومة بـصراع الحضارات، التي جادل فيها بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون متمحورة حول خلافات أيديولوجية بين الدول القومية، بل حول الاختلافات الثقافية والدينية بين الحضارات الكبرى في العالم.
إنّ أطروحة صراع الحضارات تعمل على توليد جغرافيا جديدة، وأطالس جديدة، وترسم خرائط مغايرة للعالم، غير خرائط سايكس–بيكو. لذلك لا نستغرب ما قاله أحد الكتّاب الفرنسيين عن أنّ العرب استخدموا الدادائية — وهي حركة شعرية عبثية نشأت في سويسرا عام 1916 أثناء الحرب العالمية الأولى وعبّرت عن معاناة الشباب — والسوريالية، التي تعني الواقعية الفائقة، بوصفها تحدّيًا للمنطق عبر إلهام الأحلام وطرائق عمل العقل الباطن، وكذلك الفن التجريدي، لكن في السياسة بدلًا من الأدب والفن.
ولا نبالغ إذا قلنا إنّ مسرحيات من طراز في انتظار غودو لصموئيل بيكيت، أو المغنية الصلعاء لأوجين يونسكو، تبدو منطقية إذا ما قورنت بهذه “التراجيكو–ميديا” التي نحياها يوميًا، بل كل ساعة؛ حيث امتزجت المأساة بالملهاة على نحو غير مسبوق، ولم تعد مقولات من قبيل “شرّ البليّة ما يضحك” تليق بهذا الواقع العربي الأليم المعاش، لأنّها لم تعد تُضحك بقدر ما تُصيب الناس بالدوار والقيء، وغبش العينين، والذهول التام، وعدم تصديق ما تقع عليه العين، وما تسمعه الأذن، على الرغم من الطنين المستمر كما في حالة “مرض منيير”، وما يشمّه الأنف من روائح، على الرغم من الزكام والعطاس.
فهل بلغ سيل الدم المهراق الزُّبى — لا الماء — كما قال الأسلاف: “بلغ السيل الزُّبى”؟ أم أنّ هناك متّسعًا للمزيد؟ وهل بلغ الفقر والفاقة والمرض، والتخلّف والأميّة والجهل، نسبةً تكفي لإعادة النظر في كل شيء من جديد؟ أم إنّ هذا الثالوث الأصفر، ومعه الريح الصرصر، سيصبح خريطة، بل خرائط لا نهائية، وتضاريس لأمّةٍ بأسرها، وأسراها معًا، في سجنها الكبير؟
فلو قرّر أبرز كتّاب مسرح العبث، أو ما يُسمّى بمسرح اللامعقول — وهم صموئيل بيكيت الإيرلندي، وفرناندو أرابال الإسباني، ويوجين يونسكو الروماني الأصل الفرنسي الجنسية — أن يكتبوا معًا مسرحية عبثية لا يُعرف فيها دور البطل من دور الكومبارس، ولا الغسق من الشفق، ولا نعيق الغراب من هديل الحمام، لما وجدوا أفضل من المشاهد التي تعيشها منطقتنا من العالم.

وبكل ألم نتساءل:
إلى متى سنبقى نعيش هذا العبث؟