مهيب الرفاعي
اعترف بنيامين نتنياهو مؤخرًا، بعبارة غير مسبوقة في التاريخ السياسي الإسرائيلي الحديث، بأنّ إسرائيل “خسرت معركة الوعي”، وهو اعتراف يتجاوز حدود المراجعة الإعلامية إلى مستوى الإقرار بالهزيمة الرمزية والفكرية أمام الشعوب والرأي العام العالمي. فبعد حربٍ مدمّرة على غزة، لم تعد إسرائيل قادرة على احتكار الرواية أو تزييف المشهد كما اعتادت منذ عام 1948؛ إذ خرجت الصورة من يدها وانتقلت إلى فضاءٍ شعبي عابر للحدود، تقوده عدسات الهواتف ومنصات التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها تيك توك . هذه المنصات لم تعد مجرد وسائل ترفيه، بل أصبحت ساحة نضال جديدة، ومعملًا لإنتاج الوعي الجمعي، وفضاءً مفتوحًا لبث الحقيقة كما هي، دون وسطاء أو فلترة سياسية، ما جعل إسرائيل تفقد قدرتها على التحكم في الخطاب العام، وتواجه سيلًا من الصور والمقاطع التي عرّت ممارساتها أمام العالم.
كان تيك توك تحديدًا الكابوس الأكبر لتل أبيب. فبينما أنفقت إسرائيل مليارات الدولارات على الهاسبارا ، وهو جهاز الدعاية الرسمي الذي يُصدّر صورتها الإيجابية في الخارج، جاءت بضعة ثوانٍ من مقاطعٍ مصوّرة لهدم تلك الجهود كلها. ملايين المستخدمين من الشرق والغرب، من العرب والأوروبيين والأميركيين اللاتينيين، باتوا يرون المأساة بأعينهم: أطفالٌ ينتشلون من تحت الركام، مستشفياتٌ تُقصف، وصحافيون يُستهدفون في بثٍ مباشر. هذه المشاهد التي لا يمكن تزييفها شكّلت ضميرًا عالميًا جديدًا، وأطلقت موجة غير مسبوقة من التعاطف مع الفلسطينيين، ودفعت بملايين الشباب إلى الشوارع في جامعات ومدن العالم، بينما بدا الخطاب الإسرائيلي عاجزًا عن استيعاب هذه الهزيمة المعنوية.
في مواجهة ذلك، لم يجد نتنياهو إلا أن يلجأ إلى خطابٍ براغماتي جديد، يدعو فيه علنًا إلى شراء تيك توك ، في إشارة تكشف عمق الأزمة. لم يكن المقصود فقط السيطرة الاقتصادية، بل السيطرة على الخوارزميات والعقول، فإسرائيل تدرك اليوم أن الحرب المقبلة ليست في غزة ولا على حدود لبنان، بل في فضاء الإنترنت. منذ أسابيع، يجتمع نتنياهو مع خبراء الدعاية الرقمية، ومستشارين من شركات ميتا و يوتيوب و إكس ، لتصميم خطة سماها نهضة التواصل الإسرائيلي تهدف إلى إعادة بناء صورة إسرائيل و استعادة تأثيرها في صناعة الرأي العام العالمي . الخطة تعتمد على ثلاثة مستويات: أولًا، التغلغل في البنية التكنولوجية للمنصات لضبط المحتوى المعادي لإسرائيل وإعادة توجيه الخوارزميات لصالحها؛ ثانيًا، الاستثمار في المؤثرين وصنّاع المحتوى لتسويق إسرائيل كدولة متقدمة منفتحة، تتعرّض لظلمٍ إعلامي من خصومها؛ وثالثًا، شنّ حملات تشويه ضد النشطاء العرب والفلسطينيين بتهم الكراهية و التحريض ، في محاولة لعزلهم رقميًا وتجريمهم قانونيًا في الغرب.
لكنّ الأهم في هذا التحول ليس شكله الإعلامي، بل جوهره السياسي. فخلف الخطاب الدعائي تكمن خطة أعمق تُعرف في أروقة مراكز التفكير الأميركية والإسرائيلية باسم إعادة تشكيل العقل العربي ، وهي رؤية مشتركة لمرحلة ما بعد غزة، تسعى إلى تطويع الوعي الجمعي العربي والإسلامي ليتقبّل إسرائيل كواقعٍ طبيعي لا ككيانٍ استعماري. الهدف ليس فقط تبرير التطبيع، بل تفكيك الحسّ القومي والوجداني تجاه فلسطين، وتحويل القضية من مسألة تحرّر إلى قضية تنمية واستقرار ، ومن مقاومة إلى تطرف ، ومن احتلال إلى نزاع أمني . في هذا السياق، يجري استثمار الإعلام والترفيه والمناهج التعليمية والدراما العربية وحتى الإعلانات التجارية لتمرير سرديات جديدة تُقدّم إسرائيل كدولة شريكة في الابتكار والتكنولوجيا، فيما تُختزل المأساة الفلسطينية في رمزية إنسانية مجردة بلا بعد سياسي. إنها عملية هندسة معرفية شاملة تستهدف البنية الرمزية للوعي العربي، بحيث يُعاد تعريف المفاهيم الأساسية: الحرية، المقاومة، الكرامة، الهوية.
إسرائيل والولايات المتحدة، في هذا المسعى، لا تواجهان فقط الشعوب العربية بل أيضًا تحولات عالمية غير مسبوقة: انكسار هيمنة الإعلام التقليدي وصعود الإعلام الشعبي، وانبعاث أخلاقي جديد لدى الأجيال الشابة الرافضة للازدواجية الغربية في حقوق الإنسان. فالمعركة اليوم لم تعد بين جيوشٍ وجيوش، بل بين سردياتٍ وسرديات، بين الحقيقة المصوّرة والمحتوى الموجّه، بين ذاكرة الشعوب وذاكرة الدولة. ومن المفارقات أن إسرائيل، التي كانت تتباهى بأنها أمة الهاي تك ، أصبحت تخاف من الهاتف المحمول بيد طفلٍ في غزة، لأنه قادر على نسف خطابها بالكامل بلقطةٍ واحدة.
إنّ ما يجهله نتنياهو ومنظومته أن الوعي لا يُشترى، وأن السيطرة على المنصات لا تعني السيطرة على الضمير. فمهما أنفقت تل أبيب على الدعاية، ستظل الحقيقة أقوى من الخوارزميات. فالشعوب التي رأت المأساة لن تنساها، والجيل الذي تربّى على مقاطع تيك توك من غزة لن يُقنعه أي مؤثر ببراءة القاتل. لقد انقلب السحر على الساحر: فإسرائيل التي أرادت تسخير التكنولوجيا لتثبيت تفوقها، وجدت نفسها أسيرة التكنولوجيا ذاتها، في عالمٍ لا يُدار من غرف المخابرات بل من وعيٍ جمعي يتشكّل لحظة بلحظة على الشاشات الصغيرة.
من هنا، يمكن القول إنّ معركة الوعي ليست حدثًا عابرًا، بل تحوّلًا استراتيجيًا يعيد تعريف القوة في القرن الحادي والعشرين. القوة لم تعد فقط في الجيوش ولا في المال، بل في القدرة على سرد الحقيقة وإقناع الناس بها. وإذا كانت إسرائيل قد خسرت هذه المعركة أمام طفلٍ يحمل هاتفًا في غزة، فإنّ ما بعد هذه الهزيمة سيكون بداية زمنٍ جديد، تُكتب فيه الرواية من الأسفل لا من فوق، وتُصاغ فيه هوية الشعوب من داخلها لا من خلال الدعاية الخارجية. فتيك توك الذي يريد نتنياهو شراءه لن يشتري الوعي، وغزة التي حاول محوها بالصواريخ أعادت تعريف العالم كله بمعنى العدالة والحرية.
								
															







