خطاب ترامب في الكنيست(المحفل): خطاب القوة — سياسة احتلالية بلسانٍ إمبراطوري، وتجسيد للنهج الاستعماري والعقلية الإمبريالية

د.ماهر عامر

لم يكن حديث دونالد ترامب في الكنيست الإسرائيلي مجرّد موقفٍ سياسي أو تصريحٍ دبلوماسي، بل كان مشهدًا مسرحيًا صريحًا يجسّد العقلية الاستعمارية التي لا تزال تحكم السياسات الإمبريالية الأمريكية القديمة الحديثة. وقف ترامب متحدثًا بلغةٍ تتباهى بالقوة والهيمنة، متجاهلًا القانون الدولي وحقوق الشعوب، ومكرّسًا منطق السيطرة والتوسع على حساب العدالة والحق الإنساني. كان خطابه بيانًا استعماريًا مكتمل الأركان، يُعيد إنتاج منطق “القوة فوق القانون”.
تجاهل ترامب الحديث عن حلّ الدولتين وحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على كامل ترابه الوطني في الضفة وغزة وعاصمتها القدس، كما تغافل عن حقّ اللاجئين في العودة إلى ديارهم، وعن مئات آلاف الشهداء والجرحى الذين ارتقوا دفاعًا عن أرضهم، وعشرات آلاف الأسرى الذين يقبعون في سجون الاحتلال. وأعاد في خطابه ما اعتبره “حقّ إسرائيل في القدس والجولان المحتلَّين”، مؤكدًا اعترافه غير الشرعي بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، في خرقٍ فاضحٍ للقانون الدولي، وتأكيدٍ على أنّ الإمبريالية الأمريكية لم تعد تكتفي بدعم الاحتلال، بل تسعى لتقنينه ومنحه شرعيةً دائمة.
بل تجاوز ذلك إلى تبرير القتل والإبادة حين قال في خطابه: “لقد قدّمنا لكم السلاح، وأنتم أحسنتم استخدامه بقتل الأطفال والنساء وتدمير مقومات الحياة”، في تصريح فاضحٍ لشراكة الفعلية بحرب الابادة الجماعية ، معلنا أن القتل والتدمير والعدوان تمارسه آلة الاحتلال بدعمٍ سياسي وعسكري أمريكي مباشر.أضفى ترامب الشرعية على ضمّ الأراضي المحتلة، وأكد دعمه للقتل الهمجي الذي يمارسه جيش الاحتلال بحق المدنيين في غزة، معتبرًا أن أحداث السابع من أكتوبر تشبه “الهولوكوست”، متجاهلًا أن ما تفعله إسرائيل اليوم هو هولوكوست جديد ضد الأطفال والنساء، يُنفَّذ بأحدث الأسلحة الأمريكية وبغطاءٍ سياسي إمبريالي. كما تجاهل تمامًا مسؤولية الاحتلال عن تدمير البنية التحتية والمستشفيات والمدارس والمواقع التاريخية ومراكز الأمم المتحدة في القطاع المحاصر.
وفي خطابه في المحفل وفي شرم الشيخ، تحدّث ترامب عن “السلام” برؤيةٍ إقليميةٍ ضيقة، لا تتصل بجوهر القضية الفلسطينية التي أشعلت ضمير العالم، بل قدّم تصورًا تقنيًا للسلام يتجاهل الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية. تعامل مع قطاع غزة بوصفه منطقةً جغرافيةً تحتاج إلى الإعمار، دون ربطها بالأراضي الفلسطينية المحتلة أو بالمصير الفلسطيني الواحد لشعبٍ يناضل من أجل التحرر والانعتاق من الاحتلال. لم يتحدث ترامب عن سلامٍ عادل، بل عن “سلامٍ” بالمفهوم الأمريكي–الإسرائيلي، أي سلام الإخضاع لا السلام الحقيقي. دعا إلى “غزة منزوعة السلاح” في الوقت ذاته الذي أعلن فيه استمرار تزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكًا. كما دعا إلى توسيع اتفاقيات “إبراهيم” على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، مؤكدًا رؤية إسرائيلية خالصة للسلام تقوم على نفي العدالة والسيادة وتحويل الصراع إلى معادلةٍ أمنيةٍ أحادية الجانب، وذهب أبعد من ذلك حين اعتبر نفسه من أوقف العدوان والإبادة، في تجاهلٍ للحقيقة الجوهرية بأن من أوقف العدوان هو صمود الشعب الفلسطيني، وتضحياته، والضغط الشعبي العالمي، وانكشاف الزيف الإسرائيلي الأمريكي أمام الرأي العام الدولي.
ما غاب عن خطاب ترامب ليس مجرد تفصيلٍ سياسي، بل هو جذر القضية نفسها. فالاحتلال الإسرائيلي لم يبدأ من اليوم ولا من أحداث السابع من أكتوبر، بل هو امتدادٌ لمشروعٍ استعماري طويل، يقوم على التطهير العرقي والاقتلاع المنهجي للشعب الفلسطيني. فمنذ عام 1948، تمّ تدمير أكثر من 525 قرية فلسطينية وتهجير نحو 900 ألف فلسطيني قسرًا في واحدة من أبشع جرائم التهجير الجماعي الممنهج. تجاهل ترامب لهذه الحقائق التاريخية وتقديمه رواية مقلوبة للحدث ليس مجرد انحيازٍ سياسي، بل تجديدٌ لخطاب الإنكار الإمبريالي الذي يسعى لمحو التاريخ واستبداله برواية القوة. إن إنكار النكبة هو في جوهره امتدادٌ للاستعمار نفسه، ومحاولة لفرض الذاكرة الاستعمارية بوصفها “الحقيقة”.
في انتقائيةٍ فاضحة للمعاناة وازدواجيةٍ في المفاهيم الإنسانية، ركّز ترامب على معاناة “الإسرائيليين” متجاهلًا الفلسطينيين، معيدًا إنتاج الأيديولوجيا العنصرية التي تمنح بعض الشعوب حقّ الحياة والعدالة وتنكرها على الآخرين. في خطابه، تُختزل الإنسانية في معايير الولاء السياسي، وتُمحى معاناة أمةٍ بأكملها من السرد. لم يكن ذلك زلةً في التعبير، بل تجسيدٌ للبنية الإمبريالية التي تبرّر الاحتلال وتقدّمه بوصفه “ضرورةً حضارية”، كما فعل حين تحدّث عن “حق إسرائيل في الدفاع عن أمنها” دون أن يذكر حقّ الشعوب في الحرية والاستقلال وإنهاء الاحتلال. حين تتحدث واشنطن باسم “الشرعية الدولية” وهي تسلّح الاحتلال وتمنحه الغطاء السياسي، فإنها لا تمارس وساطةً، بل وصايةً إمبريالية على النظام الدولي. تتحول الدبلوماسية إلى أداةٍ لتكريس الهيمنة، ويغدو القانون الدولي مجرّد غطاءٍ لتبرير ما يناقضه. وهذا ما جسّده خطاب ترامب بوضوحٍ: صياغة واقعٍ استعماري جديد تُدار فيه مفاهيم العدالة والحرية وفق ميزان القوة لا القانون.
ما طرحه ترامب في الكنيست يُعيد إلى الأذهان الخطوط العريضة للمشروع الإمبريالي الكلاسيكي: يبدأ بالتغلغل السياسي والدبلوماسي، ثم ينتقل إلى شرعنة السيطرة العسكرية والقانونية، وصولًا إلى تحويل الاحتلال إلى واقعٍ “مشروع” محميٍّ بالتحالفات والقوة. هذه المنهجية التي تقوم على التوسع بالقوة ليست جديدة، بل هي ذاتها التي أسست لمراحل السيطرة الغربية على العالم الثالث، واليوم تُعاد صياغتها بلسانٍ أمريكي داخل أروقة الكنيست، أو كما سماه ترامب “محفل الديمقراطية”.
غير أنّ الذاكرة الفلسطينية، رغم كل محاولات الطمس، تبقى حاضرة كفعل مقاومةٍ مستمرّ. فمنذ النكبة ومجازر التطهير، مرورًا بحصار غزة والإبادة الجماعية، لم تُكسر الإرادة الفلسطينية ولم تُمحَ روايتها. فالشعب الذي حمل مفاتيح بيته جيلًا بعد جيل، وواجه الرصاص بالحجر، هو ذاته الذي يواجه اليوم العنجهية الأمريكية بخطاب الصمود والكرامة.
ومع ذلك، فإن مواجهة هذا النهج لا يمكن أن تكتمل في ظل غياب استراتيجية وطنية فلسطينية موحّدة واستمرار حالة الانقسام التي ساهمت في تغييب الدور الفلسطيني وتهميش منظمة التحرير الفلسطينية – الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني –
إن إعادة الاعتبار للوحدة الوطنية واللحمة بين مكوّنات الشعب الفلسطيني باتت ضرورةً مصيرية، تستند إلى ما تمّ الاتفاق عليه في اتفاق بكين والاتفاقيات الموقعة في القاهرة وسواها من العواصم. فلا يمكن لأي حلٍّ سياسي أن ينجح ما لم يستند إلى الإرادة الفلسطينية الحرة. فالشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى وصايةٍ خارجية، ولا إلى ما يسمى بـ“مجالس السلام” التي تُفرض من الخارج لتسويق الحلول الأمريكية الإسرائيلية.
إن ما جرى في الكنيست لم يكن مجرد خطابٍ سياسي، بل إعلانًا صريحًا لإعادة إنتاج المشروع الاستعماري بوجهٍ جديد. غير أن التاريخ أثبت أن الاستعمار والاحتلال الى زوال وان السردية الاستعمارية تنهزم أمام الذاكرة الجمعية للشعوب الحرة، وأن القوة مهما امتلكت من أدوات لا تستطيع محو حقٍّ متجذرٍ في الأرض. سيبقى الحق الفلسطيني حاضرًا في الوعي والوجدان، لأن الشعوب لا تنسى، ولا تموت روايتها. وستبقى السردية الفلسطينية تُعيد للحق معناه الإنساني والوطني في وجه خطاب القوة والاستعمار.
د.ماهر عامر
14/10/2025