كان واضحاً بعد كلمة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله أن ردّ حزبه على اغتيال إسرائيل فؤاد شُكر، وهو أعلى شخصية قيادية عسكرية في حزبه، أتى باعتراف نصرالله شخصياً شديد الانضباط ومؤطراً ضمن حدود عدم استهداف مدنيين إسرائيليين، ولا منشآت مدنية، والاكتفاء بضربات محدّدة لعدد من الثكنات، ومحاولة الوصول إلى ضواحي تل أبيب بمسيّرة انقضاضية لإصابة مقر الوحدة 8200 التابعة للاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي.
لم يتمّ تأكيد رواية “حزب الله” بهذا الخصوص. وكان واضحاً من خلال الرواية التي أدلى بها نصرالله أن حزبه تجنّب الانزلاق إلى مواجهة كبيرة مع إسرائيل. من ناحيته، وزّع الجيش الإسرائيلي والمستوى السياسي في إسرائيل معلومات أفادت بحصول ضربة استباقية لهجوم “حزب الله” قبل نصف ساعة. وقد أكّد نصرالله الخبر، لكنّه نفى أن تكون الضربة الاستباقية قد حصلت بناءً على اختراق استخباري، عازياً إياها إلى اكتشاف الطيران الاستطلاعي الإسرائيلي والأميركي حركة المقاتلين فيما كانوا يعدّون منصّات إطلاق الصواريخ. في الحصيلة الأولى، تمّ الردّ بالحدّ الأدنى من الخسائر الإسرائيلية، والحدّ الأدنى من المجازفة من جانب “حزب الله”. وطويت صفحة الردّ على اغتيال فؤاد شُكر، ومعها طويت صفحة الحرب الواسعة إلى حين!
لكن حرب السرديتين اشتعلت بين “حزب الله” وإسرائيل، على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام، جراء اكتفاء الطرفين بما حصل يوم الأحد.
فعلى العكس من الحروب السابقة، انتظرت إسرائيل الهجوم ولم تستبقه منذ اللحظة الأولى لإطلاق التهديد. وهنا، بدت تهديداتها ضعيفة قياساً على حديثها عن شنّ حرب واسعة لتغيير الواقع في جنوب لبنان. كما أن كلّ ما تملكه من قوة وسلاح وقدرات ودعم لم يمنع اختراق أجوائها ولا استهداف أجزاء واسعة من المناطق الشمالية بكل سهولة. ربما نجحت إسرائيل بسبب قدراتها في تقييد يدي “حزب الله”، لكنها فشلت في تنفيذ وعدها لسكان الشمال بتأمين عودتهم إلى بيوتهم مع بدء السنة الدراسية!
من ناحيته، أراد “حزب الله” أن يبرّر لجمهور متحمّس الردّ المتحفظ المحدود، وربما نجح بعدما جنّد كل أدواته الدعائية وجيوشه الإلكترونية إلى حدّ ما في فرض سرديته بين ناسه. لكنه فشل في فرضها في الأوساط اللبنانية المحايدة أو الوسطية داخل بيئته وخارجها. فقد توقف كثيرون أمام قول نصرالله إن من أحد أسباب التأخير في الردّ أنه أراد نشر قلق انتظار الضربة والتسبّب بخسائر اقتصادية في إسرائيل، فيما لم يتوقف عند القلق الذي تسبّب به تهديده ووعيده بالهجوم على إسرائيل واحتمال نشوب حرب. كما أنه تجنّب الحديث عن تدافع اللبنانيين الوافدين لقضاء فصل الصيف للمغادرة منذ مطلع شهر آب (أغسطس)، ما تسبّب في انهيار الفصل الأهم جداً للاقتصاد اللبناني. كما لم يتحدث عن قلق اللبنانيين الذين لم يغادروا، ولا عن نزوح عشرات الآلاف من منازلهم حتى من مناطق نفوذه إلى المناطق المسيحية والدرزية في الجبل، والسنّية في الشمال. لم يجد الأمين العام لـ”حزب الله” سوى أن يضع اللائمة على التهويل من بعض الداخل. كان يريد من الجميع “الصمت والصبر والصلاة” على ما صرّح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قبل ثلاثة أيام من الردّ.
نجح “حزب الله” في تجنّب حرب فورية، لكن سرديته لم تحُل دون طرح أسئلة جدّية من قبيل أن يعرف اللبنانيون إلى أين يريد “حزب الله” سوقهم من دون أن يحقّ لهم مجرد الاعتراض على هذه الحالة الغريبة؟ لم يُقنع “حزب الله” الرأي العام اللبناني من خارج النواة الصلبة الملتحقة به بجدوى استمرار “حرب الإسناد والمشاغلة” التي يفرضها على لبنان قبل إسرائيل. ومن المؤكّد بعد هجوم يوم الأحد الماضي، أن الهوّة توسّعت بين بيئة الحزب المذكور وسائر البيئات الأخرى. ولن نستغرب إذا سمعنا في المرحلة المقبلة مزيداً من الدعوات إلى الفدرالية (التقسيم) التي تؤشر إلى شعور جامح يجتاح شرائح واسعة من البيئات الأخرى، بدأت تقتنع بعدم جدوى فكرة العيش المشترك مع مشروع “حزب الله” والنواة الصلبة داخل بيئته التي تحتضنه من دون قيد أو شرط. فسلوك “حزب الله” في الداخل، وشعارات القضية الفلسطينية عندما تخرج من أفواه قادة محور “وحدة الساحات”، ما عادت تغري الأغلبية السنّية والدرزية ولا الأغلبية المسيحية في لبنان.
إن كلّ يوم يمرّ من دون أن يدرك “حزب الله” فداحة سياسته ومشروعه على لبنان، ومن دون أن يدرك المسؤولون المستسلمون والمتواطئون الخطأ الكبير الذي يرتكبونه، يُقرّبنا من نهاية لبنان الواحد.
*نقلا عن النهار