مدخل:
لا شك أن التحولات العميقة التي أصابت المجتمعات في أوربا بعد قيام الثورة الصناعيّة, التي عوّل عليها الأوربيون خلاصهم من جهلهم وفقرهم واستعبادهم, قد خيبت آمالهم بعد وصول الطبقة البرجوازيّة إلى السلطة, وهي الطبقة التي رحبت بها الطبقة العاملة وعموم الكادحين, ووجدت فيها الشريك الحقيقي لخلاصهم من سيطرة الاقطاع والكنيسة والملك. بيد أن الطبقة البرجوازيّة راحت تتخلى عن كل الشعارات التي رفعتها بوجه هذه الأنظمة المستبدة من حريّة وعدالة ومساواة, و بدأت هي ذاتها تمارس قهرها وقمعها واستلابها اقتصاديّا ضد الطبقة العاملة, وغربتها اجتماعيّاً, وشيئتها في المصنع, حيث تحول العامل إلى ترس في آلة الطبقة الرأسماليّة. بل حتى أفكار فلاسفة عصر التنوير المشبعة بالحريّة والعدالة والمساواة ودولة القانون والعلمانيّة والديمقراطيّة, أخذت تختفي لتظهر بدلاً عنها فلسفات جديدة تقول بموت الإله والقيم (نتشه), وتلاشي البنيّة الاجتماعيّة وسردياتها الكبرى, لتظهر مسألة التركيز على الفرد وحريته الشخصيّة, وضرورة تفكيره من داخله بما يراه مناسباً له دون النظر إلى مصلحة الآخرين. وعلى هذا الأساس تم تذرير المجتمع, وإفقاده للحمته الاجتماعيّة والأخلاقيّة, وإقصائه عن دوره في الحياة السياسيّة التي بشرت بها الثورة الفرنسيّة, وإيصاله إلى مرحلة الشك (السلبي) بكل شيء يحيط به. وبالتالي عندما يسود تيار الشك الاجتماعي في عمليّة الخلاص المادي من استلاب وتشيئ أولا, والفكري أو الفلسفي ثانياً، وينتفي المركز الثابت للوجود الاجتماعي، وتتحول (اللغة) إلى علامات لا نهائيّة الدلالة، وجد فيها المفكرون الما بعد حداثيين بديلاً عن المشاريع الفكريّة أو السرديات الكبرى التي اشتغلت على الهم الإنساني, وأصبحت عندهم وسيلة لا يقتصر دورها على التواصل والتفاهم فحسب, بل وسيلة لتفسير حركة المجتمع والفكر عموما كما هو الحال في قضية (اللعب الحر على اللغة), كما هو الحال عند “جاك دريدا” وكل الداعين للتفكيك. وتأتي هنا مسألة النقد الأدبي ومناهجه وسائل لتعميق تذرير المجتمع وإفقاد الذات لهويتها, من خلال الاشتغال على (اللغة) فلسفيّاً وأدبيّا, كما اشتغلت البنيويّىة أو ما تسمى بـ (البنوية), وكذلك التفكيكيّة والشكلانيّة الروسيّة والسيميائيّة ونظريّة اللسانيات, ومنها منهج أو نظريّة التلقي موضوع بحثنا.
إن هذا التركيز على اللغة في هذه المناهج الما بعد حداثيّة ساهمت في (تفاقم مشكلة القراءة, وخاصة بعد التأكيد على موت المؤلف الذي يعني رفض التسليم بوجود معنى قصده الكاتب في نصه، فمع الإعلان عن موت المؤلف, ننفتح على تعدد القراءات وتصبح كل قراءة إساءة قراءة لما قبلها، وهذا ما تدعو إليه «نظريّة التلقي”، التي لا تقول بتعدد قراءات النص الواحد فحسب، بل بلا نهائيتها، وباستحالة المعرفة اليقينيّة) لدلالات النص, أي الدخول في متاهات العبث واللامعقول. (1).
في المفهوم:
التلقي لغة:
جاء في معجم لسان العرب (ل-ق-ا) على الاستقبال: «تلقَّاه، أي استقبله، والتلقي هو الاستقبال – كما حكاه الأزهري- وفلان يتلقَّى فلانا أي يستقبله»(2).
ومن آيات القرآن الكريم التي ورد فيها لفظ التلقي نجد قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}. (3).
أما في اللغة الإنجليزية فكلمة: تلق reception تدل أيضاً على الاستقبال أو «طريقة رد فعل شخص أو جماعة اتجاه شيء ما. كقولنا :المسرحيّة (لقيت) قبولاً حماسيًّا من طرف المشاهدين» ومما يسجل هنا, أن (التلقي) في معجم أوكسفورد والموسوعة البريطانية والمعجم الأمريكي ويبستر، بل وحتى في بعض معاجم المصطلحات النقديّة، يرد معناه اللغوي بعيداً عن أية دلالة نظريّة أو جماليّة. (4). كما نجد في المعجم الإنجليزي أوكسفورد أن كلمة reader تدل على «الشخص الذي يقرأ، خاصة الشخص المولع بالمطالعة».
التلقي اصطلاحاً:
“نظريّة التّلقّي” اصطلاحًا عرّفها بعض النقاد العرب ومنهم “محمود عباس عبد الواحد” بأنّها: (“عمليّة التفاعل النّفسي والذّهني مع النّص القرائي”. وعرّفها “سيد حسين محمد حسين” بأنّها “النّظريّة التي تقوم على عمليّة التفاعل النّفسي والذّهني مع النّص القرائي من خلال المعنى الذي يكمن في السياق العقلي للقارئ”. ويرى “محمد حمود”: بأنّها “المشاركة الذّهنيّة والوجدانيّة للحياة الخاصة بالنّص مع القارئ”.). (5). إننا نجد أن المفهوم اصطلاحاً اقتصر هنا في دلالاته على المفاهيم الجماليّة والنقديّة, حيث ولجت هذه المفاهيم ساحة النقد الفرنسي عام 1979 بمناسبة المؤتمر الذي عقد في “أنسبريك” (مدينة في فرنسة) من قبل الجمعيّة الدوليّة للأدب المقارن تحت عنوان: “التواصل الأدبي والتلقي” بحضور المنظر الألماني “هانس روبرت ياوس”, وهو مؤسس نظرية التلقي الجمالي.. (6).
وتقول الأكاديميّة الأمريكيّة “جين. ب. تومبكنز”. عن نقد استجابة القارئ أو تلقيه: إنه «ليس نظريّة نقديّة موحدة تصوريًّا، إنما هو مصطلح ارتبط بأعمال النقاد الذين يستخدمون كلمات من قبيل: القارئ, وعمليّة القراءة, والاستجابة, ليميزوا حقلاً من حقول المعرفة».(7).
إن جل النقاد المهتمين بالقارئ، أو المتجهين إلى القارئ، اتصلت أسماؤهم بمدارس نقديّة متعددة، نذكر مثلاً: الشكليّة الروسيّة، التفكيكيّة، التأويليّة… وقد عرفت حركيّة هذا الاتجاه النقدي أوجهاً في الفترة المتراوحة بين نهاية الستينات وأوائل الثمانينات، كحركات نقديّة مناهضة آنئذٍ للنقد المتمحور على النص, وتركيزه بشكل الصارم على القارئ, وبهذا التوجه النقدي نحو القارئ, أوجد هذا النقد مجموعة ثريّة من أنواع القراء: كالقراء العالمون، والقراء المثاليون، والقراء المتضمنون، والقراء الحقيقيون، والقراء المحتملون، والقراء الفائقون (السوبر)، ولأدبيون. والقراءة في الحقيقة ليست مجرد البحث عن المعاني في النصوص، بل هي أيضا ما تتركه النّصوص فينا من التأثير، كأن تُغضبنا مثالاً أو تخيفنا أو تفرحنا أو تعزّينا؛ لأنّ تأثير الكتابة فينا يتجاوز مجرد فهمنا لها ليبلغ القدرة على جعلنا نقوم بأشياء بنفس القدرة التي تجعلنا نفهم من خلالها المعنى الكامن فيها. (8).
ويقسم “فنسنت ليتش” الناقد الأمريكي, انشغالات هذا النقد إلى مرحلتين : (المرحلة الأولى, وفيها يصور نقد “استجابة نشاط القارئ”, على أنه أداة فعالة في فهم النص الأدبي دون أن ينكر أن الموضوع النهائي للاهتمام النقدي هو النص. وفي المرحلة الثانية, يصور نشاط القارئ على أنه والنص سواء, بحيث يصبح هذا النشاط مصدر الاهتمام والقيمة.) (9).
السيرة التاريخيّة لظهور نظريّة التلقي :
يعتبر “أرسطو” في تاريخ الارهاصات الأوليّة للحركة النقديّة, من أبرز رواد الفكر اليوناني اهتماما بـ (فلسـفة التلقي)، أو مفهوم الجمال في استقبال النص، ففي رصيده الفكري والنقدي يتمثل لنا اهتمامه، بهذه المسألة، وكأنهـا محور هام يستقطب تفكيره ويستجمع فلسفته في الحديث عن أجناس الأدب” إذ يعد كتابه “فن الشعر” باشتماله على فكرة (التطهير)، بوصفها مقولة أساسيّة من مقولات التجربة الجماليّة، والتي تقوم وتنهض على استجابة المتلقين وردود أفعالهم تجاه الأثر الأدبي، وهنا نجد أقدم تصوير لنظريّة تقوم فيها استجابة الجمهور المتلقي بدور أساس. بمعنى أن تاريخ نظريّة التلقي والتأويل يعود إلى (نظريّة المحاكاة) عند “أرسطو”. وفي حقيقة الأمر, أن الإنسان كان يمارس التلقي ويؤول ما يسمع منذ بداية حياته، ولكن كان ذلك بشكل مبسط وسهل وعفوي، ثم أخذ يتدرج شيئا فشيئا، إلى أن أصبح (لنظريّة التلقي والتأويل) القواعد والنظريات التي تخصها. فكل قراءة للنص الأدبي هي إعادة تأويل له في ضوء معطيات تاريخيّة أو آنيّة، إذ يخضع النص في تشكيلته المتميزة إلى عمليّة تفاعل بين خصائص داخليّة وخصائص خارجيّة، تمثل تحولات السياق الْمُنْتَجِ في ظلاله العمل الأدبي، لذلك ظهرت عدة مناهج امتثلت لتلك المعطيات وحاولت مقاربة النص مقاربة موضوعيّة, والكشف عن مكمن الجماليّة وكيفيّة تشكيلها على أساس أن العمليّة الإبداعيّة هي عمليّة معقدة. فهي تسعى في مجمل أهدافها إلى إشراك واسع وفعلي للمتلقي بغية تطوير ذوقه الجمالي من خلال التواصل الحثيث مع النصوص الفنيّة، حيث أن حضوره أضحى نافذاً منذ وضع اللبنات الأولى لكتابة الرواية، فانتقل من دور المستهلك إلى مرتبة الشريك المحاور الذي يملأ الفراغات, أو البياضات التي أهملها الكاتب في نصه بقصد أو بدون قصد, كما استطاع أن يرغم الكاتب يوما بعد يوم على إسقاط الأقنعة اللغويّة والبلاغيّة التي طالما تدثر بها النص.(10).
أما في تاريخنا الحديث فقد توافرت الأسباب الموضوعيّة والذاتيّة التي هيأت التربة الخصبة لتشكل نظريّة أو منهج “التلقي” برؤية ممنهجة لها آليّة عملها وأدواتها المعرفيّة، وقد توج كل تلك الأسباب السياق التاريخي الذي تشكّلت وتبلورت فيه هذه النظريّة، إذ انبثقت من وسط مجتمع نخرت عظمه سوسة الحرب العالميّة الثانية التي خرج منها مهزوماً. وبسبب هذه الهزيمة تغيرت الكثير من الرؤى الفكريّة والفلسفيّة ومنها الأدبيّة في أوربا, وعليه نشأت وتبلورت نظريّة “التلقي” في سياق «إبدال» معرفي جديد لا عهد للبشرية به خلفته ظروف تلك الحرب العالميّة. إنها كما يسميها أحد النقاد (نظريّة المنهزم) الذي يحلم بالنهوض وتفادي العوائق التي أودت به إلى الحضيض لتحقيق الذات.
على العموم لقد ظهرت نظرية (التلقي) في أواسط الستينيّات مع مدرسة “كونستانس الألمانيّة” في أعقاب “البنيويّة”، أي عام (1966), إذ تأسست مع الناقدّين الألمانيَّين “هانس روبرت ياوس” و”فولفغانغ إيزر”،وكانت إرهاصاتها الأوليّة, قد بدأت في البروز نظرياً من خلال الدرس الافتتاحي الذي ألقاه “هانس روبرت ياوس” بجامعة “كونستانس” عام (1968)، والذي (شكّل منعطفاً هامًّا في مسار الدراسة الأدبيّة. حيث رسم الخطوط العريضة لبديل نظري ومنهجي يطمح بالأساس إلى إعادة الاعتبار لتاريخ الأدب الذي فقد مكانته المتميزة وأصبح يعيش على هامش الحركة الثقافيّة لهذا العصر. ولاقتراح المهمة الجديدة للتاريخ الأدبي, ارتأى “ياوس” تأسيس تصور جديد يقوم على اعتبار تاريخ الأدب سيرورة تلق وإنتاج جماليين تتم في تفعيل النصوص الأدبيّة من لدن القارئ الذي يقرأ, والناقد الذي يتأمل, والكاتب نفسه… مدفوع إلى أن ينتج بدوره). (11).
إن الدعوة التجديديّة في منهج التأريخ الأدبي التي رفع لواءها “روبرت ياوس” (هي نتاج سلسلة من احتجاجات جيل مسه اليأس من طبيعة الدراسات الأدبيّة التقليدية كما يقول “ياوس”، حيث ظهرت مجموعة من المقالات التي كانت تحمل شعارات «ثوريّة» كمقال «رؤى الدراسات الألمانيّة في المستقبل» (1973), لتتوالى بعد ذلك كتب وأبحاث تهدف بدايةً إلى «تحذير الطلبة المبتدئين من مزالق المناهج السابقة, أو ما يسمى (المناهج السياقيّة) وهي مناهج تؤكد بأن (المعنى) هو المعوّل عليه في تحديد المقصود من فحوى التراكيب وتوجيه دلالاتها, وهذا يستدعي الوقوف على مراعاة غرض المتكلم، وأحوال المخاطبين, ومقامات الحديث المختلفة، وكذا المعايير الفنيّة الواردة في النص. ثم اقتراح بدائل عن تلك التقاليد، وغالباً ما كان يتم هذا الاقتراح بطريقة خفيّة إلىً حدِ ما, حتى مُهِدَ الطريق أمام “نظريّة التلقي” بوصفها بديلاً منهجيًّا يكسر الأصنام المنهجية السائدة.).(12).
إذن لقد توافرت الأسباب التي هيأت التربة الخصبة لنظريّة جديدة هي نظريّة (التلقي)، وقد توج كل تلك الأسباب, السياق التاريخي الذي تشكّلت فيه هذه النظريّة، إذ انبثقت من وسط مجتمع دمرته الحرب العالمية الثانية, حيث خرج منها منهزماً كما أشرنا قبل قليل. إن نظريّة التلقي تشكّلت «في سياق يمقت التاريخ وويلاته بعد تلك الحرب، ونشأت في سياق «إبدال» معرفي جديد لا عهد للبشرية به ارتبط بالضرورة بنشأة إطار منافسات وصراعات إقليميّة ودوليّة. سماها الأديب والناقد “محمد مفتاح” نظريّة المنهزم الذي يحلم بالنهوض وتفادي نتائج حرب أودت به إلى الحضيض وعليه أن يسعى لتحقيق الذات.(13).
أهداف نظرية التلقي:
تسعى نظريّة التلقي, إلى تجديد وتعميق التواصل الأدبي بين النّص والقارئ والاهتمام بهما معا، فأصبحت النظريّة تتداول مفاهيم خاصّة عديدة، مثل: الإنتاج والاستهلاك، ودراسة كيفيّات التّلقّي، و انتقال التأثير من النّص إلى خيال القارئ. فالقراءة عند أصحاب نظرية التلقي هي التي تستدعي ذّاكرة القارئ، وتنفض عنها ما يعتليها من غبار النسيان، مظهرة ما يغطّيه من معارف وتجارب، كما أنّها تجعل المتلقّي يعيش النّص كواقع حياتي، يتأثّر عاطفيًّا بتفاعلاته. ومن هنا جاء الاهتمام بسلطة القارئ كردّة فعلٍ على المناهج النّقديّة السياقيّة السابقة – لا سيّما البنيويّة منها – التي أغفلت في دراستها جانب المتلقّي، واكتفت بمدى فكّه لشفرات النّص، ووضع معايير للكشف عن النظام اللساني فيه، كونها ترى النص مجموعة من العلامات اللغويّة التي تغنينا عن النظر إلى السياقات التي جاء في إطارها، وذلك عبر التفكيك وإعادة التركيب. في حين أن جماليّة “منهج او نظريّة التلقّي” جعلت هذا الفهم للعلامات اللغويّة بنية من بنيات العمل الأدبي، المساهمة في بناء المعنى، ولم تكتف بمجرد كشفه له, فجاءت هذه النظريّة لتثور على المناهج السابقة التي اتخذت من السياقات التاريخيّة والنفسيّة والاجتماعيّة ركائز لها لولوج النصّ وفك رموزه،.(14).
أهم النظريات الفلسفية والأدبيّة التي تأثرت بها نظرية التلقي:
1- الشكلانيون الروس:
إنّ (نظريّة التطور الأدبي الشكلًانيّة) تعتبر بحق أحد أهم عوامل التجديد بالنسبة لتاريخ الأدب, لأنّ التركيز على إدراك (الأدبيّة) في النّص هو الذي أدى بالشكلاًنيين إلى ملاًمسة الطابع الجمالي فيه، ورسّخ مفهوم الشكل, بحيث يندرج في أليّات الاستقبال الجمالي للعمل، وهنا يؤكّد “ياوس” : (إنّ ما يجعل العمل الأدبي عملاً فنّيًّا, هو اختلاًفه النّوعي وليس ارتباطه الوظيفي بالسلسلة غير الأدبيّة, ويقصد هنا التركيز على الشكل فقط وعدم ارتباطه بالظرف الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. هذا وإن تأثُّر “ياوس” بالشكلانيين في مسألة إقحام الإدراك الجمالي للمتلقّي مع قضية التفسير الأدبي للشكل, لم يغيّر رأيه في أنّ الشكلًانيين الرّوس لم يستطيعوا بناء نظريّة للتلقي بمفاهيم تهتم بالقارئ قبل النّص، وبآليّات الاستجابة قبل السعي نحو التفسير. فالمدرسة الشكلاًنيّة – برأيه – لا تحتاج إلى القارئ إلّا باعتباره ذاتاً للإدراك ليس إلّا، ويتعيّن عليها أن تتبين الشكل تباعا لحوافز شكل النّص ذاته, أو تكشف عن التقنية الفنيّة المستعملة في هذا الشكل.).(15).
2- الظاهراتيّة:
تأثرت “نظريّة جماليّة التلقي” بـ (ظاهريّة ) الفيلسوف البولندي “رومان انغاردن” تأثّراً مباشراً كتأثرها بالشكلاًنيّة الروسيّة. فالعمل الأدبي في هذا المفهوم ليس شيئا مستقلاً عن تجربة القارئ. والنقد هو عمليّة وصف لحركة القارئ داخل المستويات النّصيّة، ومحاولة التوقّع وسدِّ الثغرات، ومعرفة المسكوت عنه والمضمر. وفي كتابه (النظريّة الأدبيّة) يعدّ الكاتب والناقد وعالم النظريّة الأدبيّة “جونثان كالر”( نظرية التلقّي) جزءاً من الظاهراتيّة, حيث يقول: (إنّ العمل الأدبي ليس شيئاً موضوعيًّا يوجد مستقلاً عن أي تجربة، بل إنّه تجربة القارئ، وعليه فإنّ (النقد) يتخذ شكل وصف حركة القارئ عبر النّص, محللاً كيفيّة إنتاجه للمعنى من خلال طريق الارتباطات، وسد ثغرات المسكوت عنه، والتوقّع والحدس، ومن ثمّ التأكيد على هذه التوقّعات أو إحباطها.). (16).
إن جماليّات التلقّي عند “ياوس” هي إحدى طبقات الظاهراتيّة، لأنّ العمل الأدبي عنده يمثّل إجابة عن أفق التوقّعات, ولذا يلزم سيرورة القراءة التاريخيّة برأيه مجموعة من المتلقين، مع النظر إلى تغيّر المعايير الجماليّة تاريخيًّا، كونها لا تعتمد على تجربة قرائيّة واحدة فقط.
3- المنهج السوسيولوجي في النقد الأدبي:
يقترب المنهج السوسيولوجي في النقد من “نظرية التلقي” من حيث (اهتمامه بالمتلقي وثقافته واستعداده لمواجهة النّص الأدبي، وتركيزه على الطبقة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها إلى الحدّ الذي يجعل من هذه المدرسة أساساً من الأسس التي قامت عليها نظريّة التلقي. فالنقد السوسيولوجي يرى أنّ الأدب رسالة اجتماعيّة تهدف إلى تحليل المجتمع، وتعمل على تغييره، وهذا المجتمع بدوره هو الذي يعطي (القارئ) أدوات القراءة الصحيحة, لأنّه هو المعنيّ بهذه الرسالة، والقارئ المتلقّي للأدب هو البنية الأولى التي يتكوّن منها المجتمع.).(17). إن المنهج السوسيولوجي بالنسبة لنظريّة التلقي هنا, لا يؤكد برأيي على بنية العلاقات الاجتماعيّة ودورها وتأثيره على المجتمع بشكل عام, وإنما اقتصر دورها على تأثير هذا المجتمع في علاقاته وتناقضاته وصراعاته على القارئ (المتلقي الفرد) وقدرته على تحليل النص لا غير,
المنهج الهيرمينوطيقي:
تتعلق الهيرمينوطيقا كمنهجية للتأويل بالمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع الأفعال البشريّة الحاملة لمعنى ونواتج هذه الأفعال، وبالأخص النصوص. وهي بوصفها معرفة منهجيّة, توفر مجموعة أدوات لمعالجة هذه المشاكل. ويرتبط التأويل كتقليد قديم بمجموعة من الإشكالات السائدة والمتكررة في حياة الإنسان, فالتأويل نشاط انساني حاضر في كل وقت, ويتطلع البشر إلى فهم ما يرونه مهماً في نظرهم. ونظراً لتاريخ الهيرمينوطيقا الطويل، فمن الطبيعي أن تكون قضاياها، وأدواتها، قد شهدت تحولاً كبيراً مع مرور الوقت، و لحق هذا التحول مبحث أو مضمون التأويل نفسه. وعلى هذا الأساس تأثرت نظريّة التلقي بالمنهج الهيرمنيوطيقي, على اعتبار القارئ هو من يقوم بتفسير وتأويل النص, وهو ذاته من يتأثر به من خلال تفسيره وتأويله.
مرتكزات نظريّة التّلقّي:
تمثّل نظريّة التلقي محورا من محاور نظريّة القراءة وتدور حول ثلاثة محاور تشكل دعامتها الأساسيّة، وهي :
1 . القارئ المتلقّي:
وقد أولته نظريّة التلقي أهمّية كبرى، حيث جعلته المحور الذي تدور حوله العمليّة الأدبيّة في تلقي النّصوص، وإنتاج المعنى.
2 . بناء المعنى:
لتحديد المعنى عند أصحاب هذه النظريّة لابد من التعريج على مفهوم “الفجوات” أو “البياضات” داخل النصّ، وكيف يسهم القارئ في ملئها لبناء المعنى، يقول “أمبرتو إيكو” ( إن النص هنا ما هو إلا نسيج فضاءات، وفرجات يتركها النص بيضاء كونه يمثل آلة كسولة أو مقتصدة، تحيا من قيمة المعنى الزائدة التي يكون المتلقي قد أدخلها إلى النص.).(18).
3 . أفق التوقعات ) أو أفق الانتظار:
بين الدكتور “عبد العزيز حمودة” أن محور نظريّة التلقي الذي يجمع عليه روادها هو (أفق توقع القارئ في تعامله مع النصّ. ومهما اختلفت المسميّات فإنّها تشير إلى شيء واحد وهو: ماذا يتوقع القارئ أن يقر أ في النصّ؟ وهذا التوقع يتوقّف على ثقافة القارئ، وتعليمه، وقراءاته السابقة، أو تربيته الأدبيّة والفنيّة. ). (19).
مبادئ وأسس نظريّة التلقي:
انطلاقاً من العلاقة بين النص وقارئه التي تعتبر جوهر نظريّة التلقي, وهي علاقة محكومة بمجموعة من العمليات النفسيّة والذهنيّة، يشترك فيها قراء الأدب على اختلاف ثقافاتهم وانتماءاتهم، وعصورهم الزمنيّة، جاء الاهتمام بنظريّة التلقي، وهي نظريّة تفسر تلك العمليات، وتضع منظومة من القواعد والمفاهيم والمبادئ النظريّة التي تساعد على فهم عمليات التذوق والاستجابة والوعي، أي محاولة إدراك ومعرفة الحدث الذي ينشأ من خلال القراءة. وهذا ما سوف نشير إليه في تحديدنا لأهم مبادئ وأسس نظريّة التلقي وهي:
1- إنّ أهم ما يمكن أن يميّز نظريّة التلقي هو وجود اتجاهين كبيرين متباينين تعاملا معها هما: اتجاه “جماعة برلين” و”جماعة كونستانس”، حيث قامت الأولى على مهاد نظري فلسفي يستمد تراثه من النظريّة الماركسيّة معتقدة أنّ التواصل الفني يقوم على أربعة عناصر هي: المؤلف والنص والمتلقي والمجتمع؛ ولذلك أخذت هذه الجماعة مآخذ عديدة على جماليات التلقي التي دعت لها مدرسة (كونستانس), ولعلّ أهمّها هي الطريقة التي تَفْصِلْ فيها بين العلاقة الجدليّة القائمة بين الإنتاج والاستهلاك/ التلقي، حيث سيؤدي الفصل بين الإنتاج والتلقي بنظر أصحاب نظريّة “برلين” إلى فقدان كلّ قيمة وكل طموح من أجل بناء نمط استبدالي جديد. أما جماعة (كونستانس) فيعود لها الفضل في وضع الأسس النظريّة لما يعرف بـ (جماليات التلقي) التي أعادت للقارئ قيمته الحقيقيّة وجعلته قطباً تقوم عليه نظريتها الفلسفيّة والأدبيّة، بل زادت في هذا التوجه إذ جعلته داخلاً في العمليّة الإبداعيّة ذاتها، ولم تول هذه الجماعة شأناً للمجتمع كما فعلت جماعة برلين, لأنها ترى أنّ المجتمع موجود في النص وفي القارئ ومتضمّن فيهما.(20).
2- التركيز على القارئ أو المتلقي: لقد حاولت نظريات الأدب في مسار تطورها التاريخي، أن تُعالج النص الأدبي، وقد توقفت كل نظريّة في إطار جانب أو أكثر من جوانب النص مؤكدة أهميته على حساب الجوانب الأخرى، فكانت المناهج السياقيّة (التي تهتم بالمضمون) تركز على المبدع (الكاتب) وتجعله في قمة الهرم، وعنصراً فاعلاً، واعتبار (معاييره الخاصة) أساساً في فهم العمل الأدبي، على حساب المتلقي الذي أُهمل، ولم يكن له دور يُذكر. لتأتي بعدها مناهج الشكلانيّة الروسيّة والبنيويّة والتفكيكيّة التي أعطت الدور الرئيس للنص، بوصفه بنية محايثة، لا علاقة لها بشيء يقع خارج النص، ولا يجب على القارئ أن يبحث عن دلالات العمل الأدبي خارج إطاره اللغوي، فمهمة القارئ تحليل النص بتشكلاته اللغوّية وفق دلالاتها ، مهملة بذلك المبدع والمتلقي.
بيد أن المناهج الحديثة ومنها “منهج التلقي” قد خطا خطوة جديدة، تغيرت بها تقاليد النظام السائدة في قراءة النص، إذ تحوّل الدور الرئيس للقارئ، الذي يجب عليه أن يتفاعل مع بنيات النص، فإذا ما حصلت عمليّة الفهم، وجب عليه أن يستحضر ما سبق أن كونته له قراءاته السابقة من ذخيرة معرفيّة لردم فراغات النص، حتى يتمكن من الكشف عن قصديّة المؤلف والنص. فمهمة (القارئ) يجب أن تقوم على مدى قدرته في طرح تقاليد جديدة يُغيِّر بها نظام التقاليد السائدة، وذلك بإجاد أدوات إجرائيّة، يوظفها للتحليل والمقارنة في نصِه الذي يتناوله بالدراسة.(21).
ونستنتج مما سبق بالنسبة للقارئ, يفترض أن يكون ملمّا بمعرفة النصوص والآليات التي تشتغل وفقا لها تلك النصوص، وهذا لا يتأتى إلاّ من المعاشرة الطويلة التي تمنح القدرة على فرز ما يتراكم من هذه النصوص, مثلما تكتسب تلك المعاشرة خبرة في رصد تعاقبها الزمني, وما يحدث من خروقات وتغيير وتشويش على نظم تلك النصوص والتقاليد الفنيّة التي لازمتها, وهي تصل إلى القارئ الحصيف عبر الأزمنة، وهذا يتطلب من القارئ أيضاً ضرورة تركيزه على مفاهيم مثل الظاهراتيّة وعلم النفس واللسانيّات والأنثروبولوجيا, لما لها من أهميّة في كشف خفايا النص, واستثماره وتأويله, واستكشاف الأبعاد المجهولة من الأعمال الأدبيّة والنصوص بمختلف أنواعها، والغوص بأغوار طبقات دلاليّة لا يراها غير القارئ الخبير الفطن، وهي دلالات ليس من الضرورة أن يكون الكاتب قصد إليها بالمرّة. وهذا ما أعطى لهذه النظريّة ميزتها وتفرّدها.
3- القارئ الضمني: إن العمل الأدبي وفق نظريّة التلقي يمثل تفاعلاً حيويّاً بين خصائص النص من جهة وأفق انتظار القارئ من جهة أخرى. أهم ما في نظريّة التلقي أنها تخلق محاورة بين الموضوع والقارئ ، ولا يمكن وصف مثل هذه العمليّة إلاّ بوجود القارئ الضمني، بوصفه وسيطاً بين النص وفعل القراءة ، وهو قارئ يفترضه المبدع لا وجود حقيقي له.(22).
4- العمل الأدبي نتاج العلاقة التفاعليّة بين الَّنص والقارئ: وبذلك يكون العمل الأدبي في ضوء نظريّة التلقي نتاج العلاقة التفاعليّة بين الَّنص والقارئ, تعينه على ذلك ذخيرته المعرفيّة التي اكتسبها من قراءاته المختلفة, التي تعينه يدرها على فهم النصوص وتأويلها، بالإضافة إلى الاستراتيجيات ذات الوظيفة الازدواجيّة بصفتيها الاستدعائيّة والتوجيهيّة، إذ تستدعي القارئ إلى توظيف مخزونه المعرفي ، ثم توجهه إلى هدف النص، ومن ثَّم بناء معنى ً للنص, فهي باختصار شديد تعين على إضاءة المناطق الغامضة في النص. هذا التفاعل يتحول الى هيمنة “نظرية التلقي” على كثير من مفاهيم النظريات المتفاعلة معها، من دون الاندماج الذي يفقدها هويتها. فلم تقف نظريّة التلقي ضد منهج معين، إَّنما جاءت لتصعد للقارئ مكانته بعد أن أُهمل في الدارسات الحديثة وتخلصه من سطوة المؤلف كما بينا في أكثر من موقع.
إنّ نظريّة جماليّة التلقي حرّرت النّص – عموما – من سلطة المؤلّف، وأتاحت الفرصة للقارئ لإنتاج المعنى، وفتحت آفاق أوسع أمام النّص، كما حرّرت القراءة من هيمنة المعنى النّهائي القصدي وجعلتها تعانق آفاقاً مفتوحة تسمح بالانتقال من الوحدة إلى التعدد ومن الفعل إلى التفاعل. (23).
5- إن العمل الأدبي مكيّفاً بالغيريّة: إن الأثر الفنّي لا يمكن أن يكون معزولا بصورة كاملة عن كل ما يمكننا أن ننتظره منه، فالعمل الأدبي يظلّ مكيّفا بالغيريّة أي بالعلاقة بالآخر بوصفه ذاتا مدركة، وحتى في الحالة التي يكون فيها العمل إبداعاً لغويّاً صرفاً, فإنّه يفترض معلومات مسبّقة.
أنّ علاقة النص الفردي بسلسلة النصوص الأخرى المنتمية لجنسه تظهر وكأنّها مسلك إبداع وتحرير متواصل لأفق ما، أي أن النص الجديد يستدعي إلى ذهن القارئ أفق انتظار ونظام يعرف من خلال النصوص السابقة وهو نظام يتعرّض دائما لتغييرات وخروقات وإضافات عديدة أو قد يعاد إنتاجه كما هو. أي أنّ العمل مهما بلغت درجة إغراقه في الجانب الشكلي فإنّه ينطوي على كمً من المعلومات المسبّقة التي توجّهه نحو الانتظار والتوقّع، وهذه المعلومات تقاس بها درجة الجدّة والطرافة, ومن ثمّ فإنّ أفق الانتظار والتوقّع هو ذاك الذي يتكوّن لدى القارئ بواسطة تراث أو سلسلة من الأعمال المعروفة لديه والمطلع عليها قبلا. (24).
6- القطب الفني والجمالي في العمل الفني: إن العمل الأدبي وفق نظريّة التلقي له قطبان: قطب فنّي وقطب جمالي, وإنّ قطبه الفنّي يكمن في النص المتحقق عبر النسيج اللغوي, وما يضمّنه المؤلف من (أشكال تعبيريّة) بغية تبليغ القارئ بحمولات فنيّة. وبالتالي فإنّ هذا القطب مشتمل على دلالة ومعنى وبناء شكليّ.
أما قطبه الجمالي فهو التحقّق الذي ينجزه القارئ عبر عمليّة القراءة المتأمِّلة القادرة على تأويل النص وإخراجه من حيّزه المجرّد إلى حيّزه الملموس. وبذلك يكتسب التأويل بوصفه منهجاً نقديّاً, قيمةً مضاعفةً في إدراك صورة المعنى المتخيّل في النص واستكناه أغواره البعيدة الغور والكشف عن أبعاده المتوارية. وينتج عن هذه القطبيّة الثنائيّة أيضا أنّ العمل الأدبي يمكن أن يتطابق مع النص تماما أو مع إدراك النص, بينما هو في الحقيقة يشغل منزلة وسطا بين المنزلتين. ويمكننا التأكيد هنا أيضاً على أن تذوق العمل الأدبي يمثل المرحلة الأولى في تلقيه وهي الدهشة. بيد أن مرحلة الدهشة تغيب معها السلطة المعرفيّة للعقل، بقياساته ومنطقه وأحكامه الصارمة، فالذوق يساير ما يشعر به المتلقي أمام الاحتمالات الجماليّة الموجودة في العمل الأدبي، وكلما تطابق الموقف العاطفي والوجداني في العمل مع ما يقابلها عند المتلقي، تثار عواطفه وذكرياته وانتباهه، وهو ما يؤدي إلى محاكاة الأبعاد الجماليّة التي تمثل أمامه. بينما الوعي يظل يبحث عن المعنى، الذي يمثل الغاية المعرفيّة، في عملية الإيصال، والمعنى يُنْتَجُ من تركيب الصور في عمليّة واعية قوامها التأمل والتخيل، ثم المقارنة والقياس مع ما يختزنه العقل من تجارب ومعارف سابقة. (25).
نظرية التلقي في الأدب العربي الحديث:
لا شك أن منهج نظريّة “التلقي” كان لها نصيبها في الدراسات النقديّة العربيّة شأنها شأن الكثير من نظريات النقد الأدبي في الغرب, وتأتي أهميّة اهتمام النقاد العرب في هذه النظريّة من كونها تمتلك جذورها المعرفيّة في تاريخ النقد العربي قديماً, وخاصة في القرن الرابع للهجرة كما أشار الناقد “د. مراد فطوم” في كتابه “التلقي في النقد العربي في القرن الرابع الهجري”. وعلى هذا الأساس نقول: إن النقد العربي الحديث وطأ تخوم نظريّة التلقي بجدارة. ويظهر هذا من خلال دراسات نقديّة عدّة, تناولت هذه النظريّة محاولة فك رموزها من لدن بعض الباحثين والنقاد العرب. وهذه الخطوة تجعلنا نطل على ما تدخره هذه النظريّة من عناصر إيجابي.
لقد استفادت من هذه النظريّة الكثير من الدراسات، منها على سبيل المثال الا الحصر، دراسة ( التلقي والتأويل مقاربة نسقيّة، لـ (لدكتور محمد مفتاح). ودراسة “نظريّة الاستقبال، مقدمة نقديّة”، لـ (روبرت هولب، ترجمة الدكتور عز الدين اسماعيل. كما ترجمها أيضا الأستاذ “رعد عبد الجليل”.). ودراسة “نظريّة التلقي بالأدب الحديث”، للدكتور “يوسف نور عوض”. ودراسة “فعل القراءة نظريّة جماليّة التجاوب”،” لفولفكانك إيزر، ترجمة الدكتور حميد الحمداني، والدكتور الجاللي”. ونظريّة “التلقي أصول وتطبيقات”, لـ “بشرى موسى أبو صالح”، ط،1 المركز الثقافي العربي، المغرب، 2004م. و”استقبال النص عند العرب” “دراسات أدبية”: لـ “محمد المبارك”، ط،1المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان، 1999م. و”نظرية المعنى عند حازم القرطاجني” “فاطمة الوهيبي”،ط،1, المركز الثقافي العربي، المغرب2002،م. و”الشاعر والنص والمتلقي عند حازم القرطاجني”. “نصيرة مخربش”، رسالة ماجستير “غير منشورة”، جامعة العقيد الحاج لخضر- باتنة،الجزائر2005،م. و”التلقي في النقد العربي في القرن الرابع الهجري” – “د. مراد فطوم” – 2013, الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة. و “ﺟﻣﺎﻟﯾـﺎت اﻟﺗﻟﻘﻲ ﻋﻧد ﻋﺑد اﻟﻘﺎھر اﻟﺟرﺟﺎﻧﻲ” – “أ.د محمد بيع سعيد الغامدي”. و “ﻧَظَرِﯾﺔِ اﻟﺗﻠﻘّﻲ ,اﻟﺗّﻔْﻛِﯾرُ اﻟﺟَﻣَﺎﻟِﻲﱡ” ﻋِﻧْدَ اﺑْن طَﺑَﺎطَﺑَﺎ اﻟﻌَﻠَوِي. وما هذا في الحقيقة إلا غيض من فيض.ﱢ
نقد نظريّة التلقي:
إن مناهج النقد ومدارس الفكر تظل نتاج شروط ثقافيّة خاصة، لا يمكن استنباتها في شروط مغايرة إلا بافتعال لن يؤدي أبداً إلى ثمار ذات قيمة, وهذا حال الظروف التي أنتجت منهج أو نظريّة “التلقي” كما بينا في عرض دراستنا هذه, إن كان في مدخل الدراسة, أو عند تطرقنا للظروف التاريخيّة بعد الحرب العالميّة الثانية في ألمانيا التي ساهمت في إنتاج هذه النظريّة بالذات. ونظريّة التلقي شأنها شأن النظريات السابقة أو اللاحقة كثيراً ما تعتورها إشكالات ومآزق ينبغي الإشارة إلى أهمها ويأتي في مقدمتها (طبيعة المتلقي) أو القارئ الذي يعتبر جوهر هذه النظريّة ومحور اشتغالها. حيث يُفرض علينا هنا السؤال التالي الذي يطرحه “الطيب بوعزة” :
من هو هذا القارئ الذي تدعونا نظريّة التلقي إلى الاهتمام به؟. وهذا السؤال من الوجهة المنطقيّة برأيي لن يجد بين منظّري ونقاد “نظرية التلقي” اتفاقاً على ماهيّة هذا القارئ، وهذا إشكال بحد ذاته يضع كل ما نُظر له في هذه النظريّة حول القارئ مجرد تكهنات أو تخيلات لقارئ (مفترض), بل قارئ بدأ يتلاشى عمليّاً مع إفرازات النظام العالمي الجديد وأساطير ما بعد الحداثة التي ذررت وسلعة كل شيء ومنه القارئ. وهناك ثمة إشكال آخر ظهر داخل مدرسة “كونسنتانس أنجزه “آيزر” الذي لم يترك “علم جمال التلقي” كمقاربة منهجية للتاريخ، بل حوله إلى دراسة للنص الأدبي من حيث هو علاقة تواصلية مع القارئ (الفرد) الذي حصره بالقارئ (الضمني). منتهياً إلى أن كل نص يطرح نمط قراءة خاص، لذا يجب على الناقد أن يدرس ويستخلص نظام القراءة الذي “يقترحه” النص لتحقيق الاستجابات المنتظرة من القارئ الفرد, وفي السياق نفسه، يمكن أن ندرج موقف “أمبرتو إيكو”، في كتابه المعنون بـ “القارئ داخل النص”. فالكاتب يحس عند صياغته لنصه بعوائق لسانيّة وثقافيّة ومجتمعيّة تعوق انطلاقه في التعبير، لذا فالنص حسب “إيكو” لا يقول كل شيء, ومن ثم فهو يحتاج إلى القارئ. وعلى الناقد أن يحدد نمط “القارئ النموذجي”، أو “القارئ المثالي” الخاص بالنص الذي يدرسه، وهو النموذج الذي يتوقعه المؤلف ويتمناه، ليس ليقرأ ملفوظات نصه بل أيضا مسكوتاته ومظمراته وما بين سطوره. وعلى هذا الأساس أصبح التوجه في هذه النظريّة نحو القارئ النخبوي أو المتخيل أو الوهمي أو الضمني، وليس القارئ بشكل عام أو القارئ الفعلي الذي له كينونة وجوديّة في الواقع.
وهذه التوجه نحو (الفرد) من الناحية الفكريّة والفلسفيّة والتطبيقيّة, لا يخرج في الحقيقة عن توجهات تحطيم الكتلة الاجتماعيّة وقيمها التي تريدها قيم ما بعد الحداثة. كمشروع لنقد مركزيّة الذات الإنسانيّة. ففلسفة نيتشه هي نقد لهذه المركزيّة ولنمطها العقلاني، وسيكولوجيّة فرويد هي كذلك نقد لمركزيّة العقل والإرادة لمصلحة مقولة اللاشعور والغريزية، وفلسفة البنيويّة هي إقصاء الإنسان لمصلحة البنية واللغة, ومناداة “رولان بارت” (بموت المؤلف) يندرج ضمن السياق ذاته المناهض لفلسفة الحداثة. ونظرية التلقي عندما استبعدت المؤلف تندرج هي أيضا في سياق زحزحة مركزيّة الذات. .(26).
. كاتب وباحث من سورية:
d.owaid333d@gmail.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- (عبد العزيز حمودة «المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك»، مرجع سابق، ص: 105.).
2- ). (معجم لسان العرب لابن منظور، بيروت، دار صادر، الطبعة الثالثة 1994، مادة «لقا».
3- (سورة النمل، الآية6. وقوله كذلك: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4)، (سورة البقرة، الآية:36.
4- (نظرية التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح -الدكتور فؤاد عفاني – كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة – العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ). بتصرف.
5- المرجع نفسه.
6- المرجع نفسه. بتصرف.
7- (جبن. ب. تومبكنز «مدخل إلى نقد استجابة القارئ» ضمن كتاب: «نقد استجابة القارئ من الشكلانية الروسية إلى ما بعد البنيوية»، تحرير: جبن. ب. تومبكنز. ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم. مراجعة وتقديم: محمد جواد حسن الموسوي، المجلس الأعلى للثقافة/ المشروع القومي للترجمة 1999. ص:17).
8- ( النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات»، ترجمة محمد يحيى، مراجعة وتقديم: ماهر شفيق فريد. المشروع القومي للترجمة/ المجلس الأعلى للثقافة: 2000، ص: 225. بتصرف.
9- ( فنسنت. ليتش «النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات» – ص:227.
10- (موقع – https://philarchive.org/rec/OCGKPG – مجلة وادي درعة – -2017الصديق الصادقي العماري. بتصرف.
11- (هانس روبرت ياوس «نحو جمالية للتلقي: تاريخ الأدب تحد لنظرية الأدب»، ترجمة وتقديم محمد مساعدي، مراجعة عز العرب لحكيم بناني، منشورات الكلية المتعددة التخصصات بتازة التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله، العدد الثاني، ص: 4و61 و13.).
12- (نظرية التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح -الدكتور فؤاد عفاني – كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة – العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ).
13- (محمد مفتاح «من أجل تلق نسقي»، ضمن أعمال ندوة «نظرية التلقي إشكالات وتطبيقات»، الرباط، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سلسلة ندوات ومناظرات، رقم: 24، ص: 43-44.بتصرف.
14- (نظريّة التلقّي – الباحثة / فاطمة عبد الرّزا ق كرمستجي – دكتوراه فلسفة في اللغة العربية وآدابها/ جامعة محمّد بن زايد للعلوم الإنسانيّة – و الأستاذ الدكتور/ بلقاسم الجطاري – استاذ النقد الحديث جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية – إصدار يوليو لسنة 20.). بتصرف.
15- (هانس روبيرت ياوس – جماليّة التلقّي من أجل تأويل جديد للنّص، ترجمة – رشيد بنحدو- المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة – مصر، ط 1 ، 2004 ، ص 34 – 37.).
16- (جونثان كالر: النظرية الأدبية، ترجمة: رشاد عبد القادر، منشو ا رت و ا زرة الثقافة – دمشق – الجمهورية العربية السورية، 2004 ، 147 – 148 . وفضل، صلًح: نظرية البنائية في النقد الأدبي، ص 320 – 321 .).
17- (نظرية جماليّة التلقي .. النشأة وإشكالات المصطلح – الدكتور فؤاد عفاني – كاتب وباحث من المغرب. مجلة الكلمة – العدد ( 79 ) السنة العشرون ، ربيع 2013م / 1434هـ. (ويرجع أيضا حول أهم النظريات الفلسفية والأدبيّة التي تأثرت بها نظرية التلقي كتاب : “التلقي في النقد العربي في القرن الرابع للهجرة” – مراد حسن فطوم – وزارة الثقافة – سورية – الهيئة العامة للكتاب).
18- ( إيكو إمبرتو: القارئ في الحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء –
المغرب، ط 1 ، 1996 . ص 63).
19- (عبد العزيز حمودة،: المرايا المحدّبة من البنيوية إلى التفكيك، مجلة عالم العرفة، العدد 232 ، الكويت، 1978 ، ص 323.
20 – ( موقع جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلاميّة – نظرية التلقي، وإطلاق سلطة القارئ – د. علي محمد ياسين – جامعة كربلاء – كلية العلوم الإسلاميّة – ). بتصرف.
21- (مفهومات نظرية القراءة والتلقي – مجلة ديالي للبحوث الإنسانية – أ.د خالد علي مصطفى الجامعة المستنصرية/كلية الآداب. و م. ربى عبد الرضا عبد الرزاق – جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية. ) بتصرف.
22- (مفهومات نظرية القراءة والتلقي – مجلة ديالي للبحوث الإنسانية – أ.د خالد علي مصطفى – الجامعة المستنصرية/كلية الآداب. و م. ربى عبد الرضا عبد الرزاق – جامعة ديالى / كلية التربية للعلوم الانسانية. ) بتصرف.
23- (– جامعة كربلاء – كلية العلوم الاسلامية – نظرية التلقي، وإطلاق سلطة القارئ – بقلم الدكتور علي محمد ياسين.) بتصرف.
24- ( المرجع نفسه بتصرف).
25- (المرجع نفسه. بتصرف).
26- ( موقع الملتقى الفكر للابداع – ملاحظات في نقد “تلقي” نظرية التلقي – الطيب بوعزة. بتصرف ).