في مقاله المنشور ضمن سلسلة “رؤية معهد دراسات الأمن القومي” (INSS) ، يقدم الدكتور راز زيمت، مدير برنامج أبحاث إيران والمحور الشيعي في معهد INSS، تقييمًا استراتيجيًا شاملًا لتداعيات المواجهة العسكرية الجارية بين إسرائيل وإيران، بعد اندلاعها فجر الجمعة 13. يستعرض المقال المعضلات الجوهرية التي تواجه القيادة الإيرانية، وفي مقدمتها خيارات الاستمرار في الحرب، أو التهدئة، أو التصعيد النووي المحتمل عبر الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار.
كما يناقش الكاتب الخيارات المطروحة أمام إسرائيل، بين توسيع الحملة العسكرية أو القبول بوقف إطلاق نار مدروس. ويحلل المقال الأهداف الإيرانية المرتقبة من الصراع، والمخاطر الاستراتيجية التي تهدد النظام في حال فشل خياراته، إضافة إلى دور الولايات المتحدة كعنصر حاسم في حسم مسار التصعيد أو احتوائه .”الجادة” تقدم لقراءها ترجمة كاملة لهذا التحليل
بعد مرور ثلاثة أيام على الحملة بين إسرائيل وإيران، تقترب طهران من مفترق طرق يتعلّق باستمرار “الأعمال العدائية”، واستراتيجية الخروج المحتملة، وترتيبات ما بعد النزاع.
حتى الآن، لا تزال إيران تركّز على إدارة الحرب. ومع ذلك، ومع استمرار الحملة وتراكم الأضرار، سيتعيّن على طهران أن تختار بين الحفاظ على مستوى المواجهة الحالي، أو إنهاء القتال من خلال تسوية سياسية، أو التصعيد بشكل أكبر – ربما عبر الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار (NPT).
سيتم توجيه هذا القرار من خلال تقييم طهران للطريق الأفضل للحفاظ على بقاء النظام، وبرنامجها النووي، وقدراتها الاستراتيجية الأوسع. ستواجه القيادة الإيرانية معضلة حاسمة بمجرّد انتهاء الحملة: هل تخاطر باستقرار النظام على المدى القصير من خلال إطالة أمد المواجهة – خاصة في ظل احتمال تورّط مباشر من الولايات المتحدة – أم تتخلّى عن تخصيب اليورانيوم المحلّي، والذي ينظر إليه النظام باعتباره “وثيقة تأمين” حيوية لبقائه.
من جهتها، تواجه إسرائيل خيارين رئيسيين: الاستمرار في الحملة وتوسيعها من أجل ترسيخ المكاسب العملياتية – على الرغم من الخسائر المحتملة في الأرواح والأضرار التي قد تلحق بالجبهة الداخلية – أو السعي إلى وقف إطلاق النار بمجرد أن تحدد أنها حققت أهدافها الأساسية، لا سيما تلك المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني.
في كلتا الحالتين، يجب أن تظل إسرائيل مستعدّة لاستمرار الصراع من أجل الحفاظ على إنجازاتها، والأهم من ذلك، منع إيران من استعادة قدراتها النووية – أو الأسوأ من ذلك، السعي لامتلاك أسلحة نووية استنادًا إلى القدرات التي لا تزال تحتفظ بها.
بعد ثلاثة أيام من اندلاع الأعمال العدائية بين إيران وإسرائيل، تقترب إيران من مفترق طرق حاسم. يأتي ذلك عقب الضربات الإسرائيلية المستمرة والواسعة النطاق التي ألحقت أضرارًا تراكمية بالأصول والقدرات الاستراتيجية الإيرانية.
من منظور طهران، لا تزال الصورة مختلطة ومعقّدة. من ناحية، تلقّت إيران ضربة أولية قاسية استهدفت قيادتها العسكرية العليا. لم تكن هذه الضربة مجرّد مفاجأة استراتيجية وإهانة وطنية، بل كانت أيضًا دليلًا إضافيًا على الاختراق الاستخباراتي والعملياتي الإسرائيلي لمراكز قوة النظام. كما أدت إلى تعطيل مؤقّت وجزئي لقدرة طهران على إدارة الحملة بفعالية، بسبب القضاء على شخصيات رئيسية في القوات المسلحة الإيرانية: رئيس الأركان، قائد الحرس الثوري الإيراني، رؤساء أقسام الاستخبارات والعمليات وقائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري.
بالإضافة إلى ذلك، واصلت القوات الجوية الإسرائيلية خلال الأيام القليلة الماضية تحقيق نجاحات عملياتية كبيرة، مما ألحق مزيدًا من الضرر ببرنامج إيران النووي. شمل ذلك أضرارًا جزئية (وإن لم تكن كاملة) بمرفق التخصيب في نطنز، والاغتيال المستهدف لأكثر من عشرة علماء يُعتقد بأنهم مرتبطون ببرنامج تسليح نووي ويُعتبرون مفتاحًا لتطويره.
علاوة على ذلك، استهدفت الضربات الإسرائيلية أيضًا البنية التحتية العسكرية-الأمنية لإيران: مراكز القيادة، أنظمة الصواريخ والدفاع الجوي، شبكات استخبارات الحرس الثوري وبعض المنشآت الاستراتيجية للطاقة. قد تؤدي الهجمات الإسرائيلية المستمرّة إلى تآكل نظام القيادة والسيطرة في إيران وإضعاف قدرة النظام تدريجيًا على إدارة التحديات الداخلية، مما قد يهدّد استقراره العام.
من ناحية أخرى، يمكن للقيادة الإيرانية الإشارة إلى بعض النجاحات المحدودة. على الرغم من تضرر برنامجها النووي، إلا أن الضربة لم تكن حرجة بعد – لا سيما وأن مرفق تخصيب فوردو لا يزال سليمًا. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد حاليًا تهديد فوري أو جدي لاستقرار النظام الداخلي. لا تزال القيادة تُظهر الوحدة والعزم والحيوية، ويبدو أنها تتكاتف في وجه التهديد الخارجي. وبينما عبّر الرأي العام الإيراني – الذي لا شك في عدائه للنظام – عن إحباطه من فشل السلطات في حماية المدنيين، إلا أنه لم يُظهر حتى الآن مقاومة نشطة للنظام.
يبدو أن الشعور العام يتشكّل جزئيًا من خلال الصور المفجعة للدمار في الأحياء السكنية التي استهدفتها الضربات الإسرائيلية، والتي عززت – بشكل متناقض – التماسك الداخلي والشعور المتزايد بالتضامن الوطني.
علاوة على ذلك، نجحت إيران في إلحاق بعض الأضرار بالجبهة الداخلية الإسرائيلية. وعلى الرغم من محدوديتها، فقد استخدمت الحكومة الإيرانية ووسائل إعلامها توثيق هذه الهجمات لدعم رواية الصمود النفسي والتكافؤ الاستراتيجي طويل الأمد – مشددة على قدرة الجمهورية الإسلامية على التحمل وإلحاق الأذى بإسرائيل بمرور الوقت.
من المعقول تقييم أن القيادة الإيرانية تسعى للحفاظ على عدة مكاسب رئيسية بعد انتهاء الحملة:
بقاء النظام – وهو أولويتها القصوى في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية؛ استمرارية برنامجها النووي – الذي يُنظر إليه باعتباره “وثيقة تأمين” أساسية لبقاء النظام؛ والحفاظ على الأصول الاستراتيجية الحرجة – مثل أنظمة الصواريخ، والبنية التحتية الاستخباراتية، وشبكات القيادة والسيطرة – اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية المستقبلية.
سيتم تحديد القرارات المتعلّقة بكيفية إدارة الحملة، ومتى تنتهي، وما إذا كان سيتم السعي إلى ترتيب ما بعد النزاع أو مراجعة استراتيجيتها النووية، في الأسابيع المقبلة، بناءً على قدرة طهران على الحفاظ على هذه الأهداف الأساسية.
في الوقت الحالي، لا تزال إيران تركز على شن الحرب، محاولة تقليل تأثير الضربات الإسرائيلية مع إلحاق أقصى قدر من الضرر بإسرائيل. ومع ذلك، ومع استمرار الحملة وتراكم الخسائر، ستواجه القيادة الإيرانية عدة خيارات رئيسية: الاستمرار في نمط الحرب الحالي في محاولة لجر إسرائيل إلى حرب استنزاف مطولة؛ السعي لإنهاء الحملة من خلال تسوية سياسية؛ تصعيد الصراع – ربما عن طريق الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار (NPT) أو محاولة اندفاع نحو امتلاك السلاح النووي، وربما في منشأة سرية، لاستفزاز تدخل دولي قد يؤدي إلى وقف الحرب.
قد يسمح استمرار الحملة لإيران بمواصلة استهداف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، لكنه سيتطلب منها أيضًا امتصاص أضرار متزايدة الخطورة – مما قد يعرض الأصول الاستراتيجية والبنية التحتية الحيوية وعناصر أخرى من قدراتها النووية للخطر. ومع مرور الوقت، يمكن أن يقوض مثل هذا الضرر قدرة طهران على حماية الإنجازات التي تسعى للحفاظ عليها بعد الحرب.
علاوة على ذلك، فإن قدرة إيران على الحفاظ على وتيرة إطلاق الصواريخ الحالية غير مؤكدة. وإذا اضطرت إلى تبني “اقتصاد حرب” – خاصة مع استمرار تدهور قدراتها نتيجة العمليات الإسرائيلية – فقد تصبح غير قادرة على تشكيل تهديد ذي مغزى لأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية، وستعتمد بدلاً من ذلك على عمليات إطلاق عرضية ومعزولة.
سيعتمد أي قرار إيراني بإنهاء الحملة والعودة إلى المفاوضات على موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار – وربما أيضًا على استعداد الولايات المتحدة لتلبية بعض الشروط الإيرانية المسبقة. ومع ذلك، من المشكوك فيه أن تكون إيران مستعدة حاليًا لإظهار المرونة والاستعداد للعودة إلى المفاوضات. وبينما عبّر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي عن انفتاح عام على وقف إطلاق النار، فقد صرحت وزارة الخارجية بالفعل بأن استئناف المحادثات مع الولايات المتحدة لا جدوى منه، لأن طهران ترفض تصديق أن إسرائيل تصرفت بشكل مستقل، بل تعتقد أنها فعلت ذلك بتعاون أمريكي، أو على الأقل بموافقة ضمنية من واشنطن.
قد يُستخدم الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار – وهي خطوة اقترحها بالفعل عدة أعضاء في مجلس الشورى الإيراني – أو الشروع في اندفاع نووي كتكتيكات ضغط لقيادة تدخل دولي. ومع ذلك، فإن قدرة إيران على تنفيذ اندفاع نووي سري مشكوك فيها للغاية، بالنظر إلى الاختراق الاستخباراتي الموثق لبرنامجها النووي واستمرار كثافة عمليات جيش الدفاع الإسرائيلي داخل الأجواء الإيرانية. علاوة على ذلك، فإن مثل هذه الخطوة تنطوي على مخاطر كبيرة: فقد تؤدي إلى تدخل عسكري أميركي مباشر، وهو ما تسعى إيران إلى تجنبه، وقد تقوض أيضًا الشرعية الدولية التي اكتسبتها إيران بعد الضربة الاستباقية الإسرائيلية.
حتى في حالة التوصل إلى وقف إطلاق النار، ستواجه القيادة الإيرانية معضلة استراتيجية عميقة بشأن مسارها المستقبلي. من ناحية، قد يؤدي الاستمرار في تخصيب اليورانيوم محليًا إلى إشعال الصراع مرة أخرى وربما يؤدي إلى تدخل أميركي في الحرب – مما يشكل تهديدًا وجوديًا للنظام.
من ناحية أخرى، فإن الموافقة على التفاوض ستجبر إيران مرة أخرى على النظر في التخلي عن قدراتها على التخصيب. سيواجه القائد الأعلى لإيران، علي خامنئي، حينها خيارًا صعبًا بشكل استثنائي: المخاطرة ببقاء النظام على المدى القصير من خلال مواصلة الحملة وجذب الولايات المتحدة إلى الصراع، أو تعريض بقاءه على المدى الطويل للخطر من خلال التخلي عما يُنظر إليه باعتباره حجر الزاوية في “وثيقة التأمين” الخاصة بالنظام.
بهذا المعنى، قد يكون القرار أكثر صعوبة حتى من ذلك الذي واجهه آية الله الخميني عام 1988 عندما وافق على وقف إطلاق النار مع العراق، مشبهاً إياه بـ”تجرع كأس السم”. قد يُجبر القائد الحالي على الاختيار ليس فقط بين شرب ذلك الكأس، بل بين خيارين قاتلين – أحدهما يُعرض النظام للانهيار على المدى القصير، والآخر قد يعرضه للخطر على المدى الطويل.
إذا خلص القائد الأعلى الإيراني إلى أن استمرار الحرب يشكل خطرًا جديًا على النظام وأن الاندفاع النووي غير ممكن – سواء لأسباب تقنية أو بسبب المخاطر غير المقبولة – فقد يوافق على استئناف المفاوضات وربما تقديم تنازلات ذات مغزى، بما في ذلك بشأن تخصيب اليورانيوم. قد يقبل بتسويات بعيدة المدى استنادًا إلى افتراض أن القدرات النووية المتبقية يمكن استغلالها لاحقًا في ظل ظروف أكثر ملاءمة وتحت غطاء المفاوضات، كما فعلت كوريا الشمالية من قبل. قد تطالب طهران أيضًا بإدراج أطراف أخرى – مثل روسيا أو الصين – في المفاوضات المستقبلية، مما يعكس عدم ثقتها العميق في الولايات المتحدة.
من منظور إسرائيل، هناك خياران استراتيجيان رئيسيان. الأوّل هو الاستمرار في الحملة لتعزيز وتوسيع المكاسب العسكرية، والتي تشمل زيادة الضرر الذي يلحق بالبرنامج النووي الإيراني، واستهداف الأصول العسكرية والأمنية الاستراتيجية، وإضعاف النظام بشكل أكبر. تكمن ميزة هذا النهج في تآكل قدرات إيران وزعزعة مؤسساتها بشكل أكبر. وبينما تظل قدرة إسرائيل على تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل أو القضاء على جميع القدرات المتبقية محدودة دون تدخل أميركي نشط، فإن الضغط المستمر قد يزيد من فرص انتزاع تنازلات أكبر من طهران. ومع ذلك، فإن هذا النهج ينطوي أيضًا على تكاليف باهظة: هجمات مستمرة على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وخسائر بشرية، وأضرار بالبنية التحتية. كما أن إطالة أمد الحرب قد تقوض الشعور بالإنجازات الاستراتيجية بمرور الوقت وتخلق إغراءات لتوسيع الحملة في اتجاهات قد لا تخدم الهدف الاستراتيجي الأساسي: منع إيران من امتلاك أسلحة نووية.
الخيار الآخر هو السعي إلى وقف إطلاق النار. في هذه المرحلة، حتى لو تحقق وقف إطلاق النار، من غير المرجح أن تحقق إسرائيل جميع النتائج المرجوة – خاصة في المجال النووي. علاوة على ذلك، حتى إذا أعقب وقف إطلاق النار مفاوضات (بافتراض موافقة إيران)، فمن المشكوك فيه أن تقدم إيران تنازلات إضافية ذات مغزى، نظرًا لأن طهران قد لا تشعر بعد بأن قدراتها الاستراتيجية مهددة بشكل جدي. لذلك، يجب أن تهدف إسرائيل إلى وقف إطلاق النار (حتى في غياب اتفاق رسمي بشأن البرنامج النووي الإيراني) فقط عندما تكون قد حققت الحد الأقصى من المكاسب الممكنة دعمًا لأهدافها الاستراتيجية، وعندما لا تؤدي مواصلة القتال إلى مكاسب إضافية ذات قيمة. في جميع الأحوال، سيتأثر موقف إسرائيل بشكل كبير بموقف الولايات المتحدة – سواء فيما يتعلق باستمرار الحملة أو احتمالية التوصل إلى ترتيب مستقبلي مع إيران.
بغض النظر عن كيفية انتهاء الحملة الحالية – سواء باتفاق رسمي أو بوقف إطلاق نار غير رسمي – يجب على إسرائيل الاستعداد لاحتمال مواجهة طويلة الأمد مع إيران. قد يشمل ذلك عمليات عسكرية مستمرة، وإجراءات سرية (ربما بالتنسيق مع أو بدعم من الولايات المتحدة)، وجهودًا مستمرة للحفاظ على المكاسب الاستراتيجية، ومنع إيران من إعادة بناء بنيتها التحتية النووية، والأهم من ذلك، منع أي محاولة إيرانية لاستغلال القدرات المتبقية للاندفاع نحو امتلاك أسلحة نووية.
نقلا عن موقع الجادة الايراني