الدكتور مصطفى عبد القادر – قاص وروائي ومسرحي مواليد 1957- من سوريا – ديرالزور- يحمل دكتوراه بالقانون الدولي – صدر له ثلاثة مجموعات قصتين ورواية – وعنده أكثر من مخطوط –
مجموعاته القصصيّة:
1- حانات بغداد.
2- امرأة لا تشبه النساء.
3- ورواية: خمارة وادي الموت.
عضو اتحاد الكتاب العرب – يكتب في الصحف والمجلات والدوريات – شارك في العديد من النشاطات الأدبية.
اخترنا له في دراستنا هذه قصة (امرأة لا تشبه النساء) وهي من المجموعة القصصيّة التي تحمل الاسم نفسه.
البنية السرديّة أو الحكائيّة لقصة – امرأة لا تشبه النساء:
“ممدوح” شاب موظف صغير, علاقاته الاجتماعية جيدة مع الآخرين, عيبه الخاص به هو تعاطيه الخمر الذي أدمن عليه. و”هدى” فتاة لأسرة ميسورة, تقدم ممدوح لخطبتها, رفضت الأم والأخ قبوله زوجا لهدى كونه يتعاطى الخمر, والدها رجل متنور لم يفرض أو يمنع الزواج بل قدم النصيحة لهدى:( إن ممدوح موظف بسيط, أخلاقه طيبة, ليس لدي اعتراض عليه, سوى أنه يتعاطى المشروبات الروحية. فكري جيداً قبل أن تحسمي أمرك. إن وافقت ستتحملين مسؤوليّة اختيارك. أمك رفضته, وكذلك أخوك, أما أنا فأترك لك مطلق الحريّة في الرفض أو القبول. أرجو أن يكون قرارك عاقلاً وحكيماُ.).
ها هي “هدى” تتحمل وحدها مسؤولية اختيارها. مرت السنون سريعا وأصبح لممدوح وهدى أولاداً, ولكن ممدوح لم يترك الخمر, بل ازداد إدمانا, وتمادى كثيراً في إهمال زوجته وأولاده, حتى نالهم البؤس والأسى في مطعمهم ومشربهم وأسلوب حياته. ما ميز “هدى” هو صبرها على معاناتها وإهمال زوجها, والداع لله له أن يخلصه مما هو فيه, بل ما زاد الطين بلّة, هو بدء توجهه نحو ملاحقة العاهرات, حتى كانت الليلة التي اتفق بها مع إحدى مومسات المدينة أن تأتيه ليلا إلى منزله, فجاءت في الموعد المقرر, استقبلها وذهب لزوجته لعمل فنجاني قهوة بذريعة أن صديقا له قد زاره في هذا الوقت.. عملت ما طلبه منها وجاءت به دون أن تدخل الغرفة.. أخذ من يدها صينية القهوة واغلق الباب خلفه. ولكن هاجس هدى جعلها تحس أن هناك أمراً غير طبيعي يجري داخل الغرفة.. تعرى ممدوح لمتابعة مستلزمات اللقاء.. وإذا بهدى تجده عارياً تماما مع عاهرته.. لم تقل له سوى إذا لزمك شيء فأن جاهزة.. شعر بعمق الصدمة فتوقفت كل احاسيسه وشهوته .. ارتدى ثيابه وودع العاهرة.. شعر بوخزات أبر تنغرز في مسامات جلده فتؤلمه. فكر بعيداً.. حسم أمره ومشى بخطوات خجولة وجلة.. فتح باب غرفة أولاده فوجد “هدى” ممددة بينهم, تنتحب بصوت مكتوم بائس. جلس قرب رأسها .. مدّ يداً بأصابع مرتعشة خائفة مترددة, مسح بلطف دمعة حرى عن خدها, فبدت سحنتها الخمريّة نقيّة ناعم, نظرت إليه بعنين عسليتين معاتبتين, فأحس بأنه في حضور ملكة فينيقيّة وسط حقول من الخضرة والزهور. أخذ كفها الصغيرة بكفه وضغط عليها, فازدادت دموعها بالانهمار, قرب فمه من أذنها .. همس بصوت ترشح من حروفه لكنة الندم والانكسار.. أعتذر لكل ما حصل.
البنية الفكريّة للقصة:
تدخل القصة في نسق الأدب الاجتماعي المتعلق بحياة المرأة, التي تطمح أن تكون زوجة وأم وصاحبة منزل خاص بها. وبالتالي, فإن ما تتشح به القصة فكريّاً, هو القول بأن ضعف الفتاة وعدم قدرتها على اختيار شريك حياتها بيدها, رغم أن الموافقة من قبلها على من يتقدم للزواج منها تظل محدودة, وغالباً ما تكون الموافقة محصورة بولي أمرها في مجتمعاتنا المتخلفة, فهذا ما ينعكس على حياة الفتاة سلباً أو إيجابا انطلاقاً من القول إن الزواج (نصيب). هذا إضافة إلى مسألة أساسيّة أراد القاص “مصطفى عبد القادر” طرحها هنا وهي قضية الحب الذي يجري بين الفتيات والشباب في مجتمعاتنا المتخلفة, فالحب هنا ليس أكثر من قضية إعجاب, على اعتبار أن علاقات الحب محرّمة, ويظل الجنس هو العامل الرئيس المحرك لها في مجتمع لم يتحقق فيه الانفتاح الجنسي, الأمر الذي تظل فيه مسألة الخيانة الزوجية قائمة عند الطرفين بنسبة غير قلية بعد الزواج, كون معرفة الطرفين لبعضهما قبل الزواج تظل ناقصة, وتبدأ بالانكشاف على التوالي شيئاً فشيئاً بعد الزواج, حتى تصل الأمور في نهاية المطاف إلى طلب الطلاق من قبل الرجل أو المرأة. وقليلة هي الحالات التي تصمد فيها المرأة على نصيبها إذا كان الرجل سيئاً كحالة “ممدوح” مع “هدى” رغم أن والدتها قالت لها بضرورة طلب الطلاق منه قبل أن يكثر أولادها, إلا أن “هدى” صبرت على قهرها وظلمها وإهمالها بصمت حفاظاً على حياتها الزوجيّة وانتظار اليوم الذي ستتغير فيه حياة زوجها (السكير), وهذا ما تم أخيرا, وجعلت القاص يمنحها صفة امرأة غير عاديّة. أو امرأة لا تشبه النساء.
البنية الفنية والجماليّة للقصة:
إن البنية السيمائيّة أو الدلاليّة لعنوان القصة (امرأة لا تشبه النساء), تؤكد لنا جوهر البنية الفكريّة للقصة, وهي أن المرأة تظل عاجزة عن تحقيق اختيار الزوج المناسب لها بسبب طبيعة المجتمع الذكوري, الذي يعطي الحق للرجل فقط في اختيار شريكة حياته, من جهة, ثم غياب المعرفة الحقيقية بين الطرفين بسبب قلة الاختلاط بين الجنسين, وعلى هذا الأساس غالبا ما تفشل حالات الزواج, والزوجة العاقلة هي التي تستطيع الصبر والمقاومة من أجل استمرار الحياة الزوجية والحفاظ عليها.
اللغة في القصة:
لقد اعتنى القاص “مصطفى عبد القادر” عناية بالغة باللغة التي صيغت بطريقة أقرب إلى الشاعريّة. حيث تجد فيها الكثير من المحسنات البديعيّة, وكثرة الانزياحات اللغويّة, والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة, كما ظهر لنا كل ذاك التعدد في نوعيّة الجمل التي كانت تنوس بين الخبر والانشاء, هذا إضافة إلى ورود الجمل ذات المعنى الحقيقي والمعنى المجازي, الأمر الذي يجعل المتلقي يشعر بأن مسألة التعامل مع البلاغة عند “مصطفى عبد القادر” تأتي بشكل مدروس كحرفة يمتهنها بشكل متعمد,
لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاص سليمة وفصيحة, استخدمت بقدرات تعبيريّة باهرة, وهذا يدل في الحقيقة على الثراء والغنى اللغوي من حيث قدرة التعبير وقوة التصوير في آن واحد عند القاص, كما يدل ذلك على أن القاص حاز على لغة فنيّة خاصة به. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاص أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها, إضافة لعمق تجربته.
الصورة في قصة (امرأة لا تشبه النساء ):
يأتي الاهتمام النقدي بدراسة بناء الصورة في الأدب بشكل عام, وفي القص الأدبي بشكل خاص, من منطلق أن الصورة أساس الخلق الفني, كونها تحمل المواقف الاجتماعيّة والفنيّة والجماليّة والتخيليّة وخلجات الروح الداخليّة للقاص في النص الأدبي. كما وتسهم في فهم تجربة الأديب الإبداعيّة ذاته من خلال قدرة الصورة على بناء الأشكال المجازيّة التي تنقل رؤية الأديب للمتلقي. وتعمل على تحويل الواقع الحسي إلى عوالم إبداعيّة خلاقة.
لنتابع بعض هذه الصور الإبداعيّة التي جادت بها قريحة وخبرة وعمق تجربة القاص “مصطفى عبد القادر”. وهو هنا يتكئ على صور جمعت بين الحسيّة والتخيليّة, لتترك المتلقي في حالة اندهاش من قدرته على الغوص في أعماق شخوصه. حيث يقول:
( سار بخطى ملتوية في شوارع المدينة الغافية في حضن الليل.. والوقت يوغل في التأخر منفلتاً من بين أصابع الحياة المترعة بالكأبة حوله.). و(أحست بقلبها المفطور يرف بين أضلاعها). و(مقطعاً أوصال السكون بنغماته المزعجة وإيقاعاته المنفرة ). أو في قوله: ( مع تنفس الصباح وانسحاب خيوط الليل المتلاشية ). الخ
لقد استطاع القاص أن يجعل من صوره التخيليّة داخل قصته أكثر حسيّة وجماليّة, وبذلك تميز القاص بحشد التفاصيل الأساسيّة للحدث، ونقل هذه التفاصيل عبر وعي حاذق للقاص الذي استمد هذه الصور عبر الحواس أولاً, وعبر التخيل والمجاز ثانياً, مما ساهم في رسم صور بصريّة حققت قدرته التأثيريّة على المتلقي.
ملاك القول:
إن الكاتب أو الأديب الحقيقي هو الذي يلتزم بالواقع المحيط به, وينحاز لجذوره الاجتماعيّة والطبقيّة وتناقضاتها والعمل على تصويرها وطرح الحلول لها إن أمكن.
أو بتعبير آخر: إن الأديب الحق هو الذي يلتزم بواقعه بالقدر الذي يلتزم فيه بقيمه ومبادئه التي يبشر بها في كتاباته. (فالعناية بالطابع المحلي هي الطريق إلى العالميّة.) فلا سبيل لعالميّة الفن إلا إذا اهتم الأديب وعبر أولاً عن البيئة المحليّة التي عاش فيها. إن هموم الإنسان ومعاناته اليوم قد تختلف في الشكل, إلا أنها تتلاقى من حيث الجوهر. والتجارب الأدبية بشكل عام تهدف إلى تحرير الإنسان من غربته وقهره واستلابه وجوعه ومقاومة من يعمل على امتصاص قوته وجهده وسلبه حريته وعقله.
من هذا المنطلق جاءت واقعيّة قصة ( امرأة لا تشبه النساء), حيث سعى القاص جاهداً إلى تصوير حياة أسرة انحرف فيها الأب عن مسار دوره في بناء أسرة وتربية أولاد وبناء مجتمع سليم. فجاءت أحداث القصة واقعيّة ومألوفة في الحس الشعبي والأدبي عموماً. ومن هنا ركزت هذه القصة على تصوير الشخصيات والمشاكل والتحديات التي تواجه الزوجة وزوجها وأولادهما بروح واقعية لا مست جوانب كثيرة من الحقيقة.
كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.
d.owaid333d@gmail.com
مصطفى عبد القادر.
امرأة لا تشبه النساء.
سار بخطى ملتوية في شوارع المدينة الغافية في حضن الليل, والوقت يوغل في التأخر منفلتاً من بين أصابع الحياة المترعة بالكأبة حوله.
كلما مرت سيارة بقربه, قذفته برشقة من مياه الأمطار الممزوجة بالأوحال, فتصطبغ ثيابه باللون البني, ويعلو صوته بالسباب والشتائم لاعناً من أعطى هؤلاء شهادات القيادة.
كان قد خرج لتوه من الخمارة التي اعتاد الجلوس فيها يومياً لاحتساء الخمر.
مشى على الرصيف بخطوات بطيئة متعرجة يتأرجح في كل الاتجاهات… انعطف يميناً صوب منطقته المقفرة الموحشة التي تكثر فيها الحفر والأوساخ ويخيم عليها الظلام.
وضع يده على الجدار متلمساً طريقه, متحاشياً السقوط.. صرخ بأعلى صوته:
يلعن أبوك يا بلدية.. لماذا لا تستبدلين أعمدة الكهرباء المحترقة منذ سنة.؟!. .. ثيابه المبللة أثقلت جسمه.. أحس بالتعب.. وسع فرجة ساقيه اختصاراً للوقت. لم يعد يحس بأطرافه المتخشبة من شدّة البرد.
ها هو يلج منزله ويصفق درفة الباب وراءه بقوة.. نهضت زوجته من فراشها على صوت الارتطام.. تلقته في باحة الدار, وقادته إلى الغرفة بقلب مثقل بالحزن والشفقة.. نزعت عنه ثيابه الرطبة.. ألبسته منامته بعد أن نشفت شعر رأسه. . مددته فوق فراشه, وغطت جسمه بلحاف سميك.. لملمت ثيابه المتسخة بالأوحال, وضعتها في الماء الفاتر والصابون, غسلتها جيداً ونشرتها على حبل الغسيل بعد أن توقف المطر.. انتظرت آذان الفجر .. توضأت .. صلت .. وغرورقت عيناها بالدموع وهي رافعة ذراعيها إلى الأعلى داعية ربها أن يعيد زوجها إلى رشده ويخلصه من إدمانه المقيت.. التفتت إلى يسارها فوقعت عيناها على أطفالها الثلاثة وهم نيام .. كانت وجوههم تنطق بالطهر والبراءة .. أحست بقلبها المفطور يرف بين أضلاعها..عادت بها الذاكرة لسبع سنوات خلت, عندما تقدم ممدوح لخطبتها.. كان شاباً وسيماً يتدفق حيوية ونضارة, حينذاك, ترك لها أبوها حرية الاختيار بعد نصحها قائلاً:
– إن ممدوح موظف بسيط, أخلاقه طيبة, ليس لدي اعتراض عليه, سوى أنه يتعاطى المشروبات الروحية. فكري جيداً قبل أن تحسمي أمرك. إن وافقت ستتحملين مسؤولية اختيارك. أمك رفضته, وكذلك أخوك, أما أنا فأترك لك مطلق الحريّة في الرفض أو القبول. أرجو أن يكون قرارك عاقلاً وحكيماُ. ها هي هدى تتحمل وحدها مسؤولية اختيارها.
كم من مرة كاشفته بضرورة ترك الخمر, واختلفت معه لأجل ذلك. كان دائماً يعدها بأنه سيستغني عنه عما قريب, لأن أولاده أحوج إلى المال الذي ينفقه على هذا السم, وإلى الآن لم يستطع أن يفي بوعده.
مع تنفس الصباح وانسحاب خيوط الليل المتلاشية, نظرت هدى إلى ساعة الحائط, فوجدت عقاربها تشير إلى الخامسة. قامت تجرجر جسدها المتعب.. غطت أطفالها جيداً خشية البرد.. أطفأت النور واندست بينهم, ليطغى شخير زوجها على الغرفة مقطعاً أوصال السكون بنغماته المزعجة وإيقاعاته المنفرة.. تقلبت في فراشها برأس المثقل بالهموم.. أوقدت فيه قناديل المرارة والخيبة.. تدلت أمامها خارطة حياتها البائسة .. زوجها.. اولادها الذين ساءت صحتهم.. لقمة عيشهم المتردية يوما بعد يوم.. لباسهم الذي لم يكونوا ليرتضوا به .. الديون المتراكمة. هنا تذكرت نصيحة أمها لها بعد سنتين من الزواج:
– أطلبي الطلاق يا هدى, واتركي له ابنه قبل أن يكثر أولادك ويقصموا ظهرك. هذا رجل لا يعرف المسؤوليّة, ستندمين على كل يوم قضيته في كنفه.. وتهرمين قبل أوانك .
– سألت هدى نفسها.. هل كانت أمي محقة في كلامها لو أني طلبت الطلاق وقتذاك؟. هل كان ممدوح سيبقى دون زواج؟. حتماً سيتزوج, ويكون ابني تحت رحمة لا يعرف الحنان إلى قلبها طريقاً .. لا.. لا أستطيع أن أتخيل ذلك, إنه قدري وقد ارتضيت به. وعلي بالصبر عسى يهديه الله ويثوب إلى رشده.
قبل أن ينهض ممدوح من فراشه أحس بجفاف حلقه وفمه. تلمس رأسه المحشو بمطارق من حديد. ارتطمت عيناه بسقف الغرفة فذكره لونه الباهت بحياته التي آلت لهذا الرميم. لم يفكر أبداً انها ستكون على هذه الصورة. إنه يحس بغربة عن هدى. لم يشعر أبداً انها تشبه فتاة أحلامه في شيء. عمره معها يمضي بطيئاً .. بارداً .. إيقاعه ممل. لا جديد فيه يدفع للتفاؤل, حتى أن واجباته الزوجية تحولت إلى آلة صماء معطلة فقدت أساب تشغيلها, رغم أنه يحفز مخيلته على اصطناع عوالم حب لاهبة. فيستدعي كل ما هو مثير ومحرض, لكن الخذلان يمنعه من إتمام حصاده. إنه لا يشك بفحولته المتأججة. يعرف تماماً إمكانياته الغريزية التي تلح عليه دائماً وتأرقه. تمنى لو أن أحواله المادية تسعفه لتزوج أربع نساء, وهو واثق من عدله معهن جميعاً.
0 – بالأمس وأثناء صعوده إلى الحافلة ارتطم فخذه بعجيزة فتاة غضة, تملك قواماً يتفجر أنوثة, فتحركت فحولته, حينها أسر في نفسه:
0- إلى متى أبقى قابعاً في غياهب العطش والجفاف والحرمان؟. إلى متى سيبقى زهري ذابلاً؟. إلى متى أظل أعيش وسط صحراء قاحلة يلفني الوهم والسراب؟. الليلة سأتحرر من قيودي وأخلع عني رداء التعفف المصطنع. سأمزق ستائر الخجل, وأفتح نوافذي لنداوة الربيع.. أليس عاراً أن أبحث عن حياتي الضائعة, إنما العار كل العار أن أدير ظهري لها.
0- بعد انتصاف الليل, ولج غرفة الاستقبال القريبة من الباب الرئيس لمنزله, أغلق وراءه بابها دون أن يحدث أي صوت يوقظ النيام…تقدم نحوها وهو ثمل كخيط لفحته نسمه هواء خفيفة. جلس بقربها على الأريكة ورائحة الخمر تفوح من فمه, مدّ يده إلى فخذها, والقى برأسه فوق صدرها العارم ممرغاً وجهه بوسادتين من الحرير.. أنامله راحت تمسح اللحم البض بكل ليونة ونعومة.. فمه أطبق على شفتيها الورديتين بقوة, بينا يده اليمنى طوقت كتفيها, وأطلق لليسرى تداعب هضابها وتضاريسها كأخطبوط حظي بفريسة بعد جوع طال أمده, خاطبته بصوت خافت:
0- هل أحكمت إغلاق باب الغرفة؟.
0- أجابها بلسان أثقله الخمر.
0- لا داعي لذلك.
0- تقصد لا يوجد أحد في البيت؟.
0- لا تخافي .. ما من أحد يجرأ على دخول غرفة الاستقبال عندما يكون لدي ضيوف .
0- حتى زوجتك؟.
0- اطمئني . سأخبرها أن صديقي حسام هنا.
0- خرج ممدوح وطلب من زوجته أن تعد فنجانيين من القهوة وعاد على عجل.. ماهي إلا دقائق حتى قرع باب الغرفة قرعاً خفيفاً… نهض مدوح وفتحه فتحة موربة.. تناول صينية القهوة وأعاد إغلاقه.
أطلق ضحكة تنم عن اعتداده بنفسه, وقال بلهة المنتصر:
0- ألم أقل لك لا أحد يتجرأ على دخول الغرفة حين يكون لدي ضيوف. هذه الصينية تناولتها من يد زوجتي.
0- أشعل سيجارة وضعها في فمها وأخرى له, مج منها مجّة عميقة, ونفث دخانه بزفرة مكبوتة لها وقع يشبه حفيف الأفعى .. شربا قهوتهما وهما يتبادلان أحاديث الغرام, بينما راحت عيناه تلتهم الجسد العاري أمامه بكل تفاصيله المشجعة على الالتحام. لقد اتفقت معه على قضاء نصف ساعة في بيته بعد أن تمسكت بالمبلغ الذي يرضيها.. كانت على عجلة من أمرها نظراً لوجود موعد آخر.. خاطبته بلهجة رقيقة حركت فيه كل مشاعر الفحولة.
0- : لقد مضى نصف الوقت يا عزيزي وأنا ورائي سهر طويل.
انتبه ممدوح من غفلته فهب واقفاً كالعصا, وبدأ يخلع ثيابه دون تردد, وعندما هم باعتلائها فتح باب الغرفة دون استئذان, أطل من خلاله وجه هدى الموسوم بالخيبة والاستنكار. تناول ممحوح قميصه بحركة لا شعورية ليستر به عورته. . بلع ريقه من شدّة الخوف المباغت.. حملق في وجه زوجته بعينين ذابلتين, مذعورتين. . حدجته هدى بنظرة شاخصة أطلقت الكثير من سهام القهر واللوم والاتهام .. الألسن انعقدت .. التنهدات توقفت.. حرارة الشهوة المتقدة انطفأت .. العيون جحظت.. والوجوه اصفرت.
0- قالت هدى لزوجها بصوت مخنوق وهي تحاول التمسك برباطة جأشها خشية أن تنهار وتسقط من هول الطعنة : أنا ذاهبة لأنام , إذا احتجت شيئاً أخبرني.
0- أغلقت الباب ومضت إلى غرفتها بخطى متعثرة, وقلب مكتوم بنار الخيانة المشهودة. تلقت طعنة جارحة طعنت كبرياء الأنثى فيها, ومرغت كرامتها بالتراب, لكنها كضمت غيضها, وضغطت على أعصابها خشية انفلاتها.
0- جلس ممدوح على الأريكة وحيداً .. ذاهلاً.. ساهماً من هول الصعقة, رمى برأسه على كتفه حائراً متلجلجاً, تشظت أفكاره نتفاً مبعثرة هنا وهناك, قذفها خلفاً حتى وصلت بداية حياته مع هدى. توقف كثيراً عند محطات تقصيره معها, وكذلك مع أولاده الثلاثة الذين لم يكن يهتم بهم, أو يضحي لأجلهم. لقد صفعته هدى بنظرتها الجارحة صفعة لن ينساها في حياته. كان يتوقع أي شيء إلا أن تقتحم عليه خلوته دون استئذان.. انتابه يأس شديد .. شعر بصداع يكاد يفلق رأسه نصفين.. ضغط بأصابعه على صدغيه.. وود أن يضرب رأسه بجدار عسى أن يريحه من غليانه.. أشعل سيجارة.. وثانية.. وثالثة.. تمطى ضميره الغالي بداخله .. أفاق تواً من نومه.. تطاول وانتفخ حتى أن الغرفة لم تتسع له. شعر بوخزات أبر تنغرز في مسامات جلده فتؤلمه. فكر بعيداً بعيداً .. حسم أمره ومشى بخطوات خجولة وجلة.. فتح باب غرفة أولاده فوجد هدى ممددة بينهم, تنتحب بصوت مكتوم بائس. جلس قرب رأسها .. مدّ يداً بأصابع مرتعشة خائفة مترددة, مسح بلطف دمعة حرى عن خدها, فبدت سحنتها الخمريّة نقيّة ناعم, نظرت إليه بعنين عسليتين معاتبتين, فأحس بأنه في حضور ملكة فينيقيّة وسط حقول من الخضرة والزهور. أخذ كفها الصغيرة بكفه وضغط عليها, فازدادت دموعها بالانهمار, قرب فمه من أذنها .. همس بصوت ترشح من حروفه لكنة الندم والانكسار.





