القصة القصيرة, هي قصة تنتمي إلى الأدب القصصي, وتتميز باختصارها وإيحاءاتها العميقة واكتفائها بعدد قليل من الشخصيات ومكان واحد وزمان محدود. وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة, أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير.
“وسيلة أمين سامي” قاصة شابة من اليمن السعيد, اهتمت بالكتابة منذ عام (2012), امتلكت أدوات القص لغةَ وأسلوباً وفكرةً, فكتبت في مجالات عدّة قصصها القصيرة, الأمر الذي جعلها تفرض حضورها الأدبي في بلدها اليمن أولاً, وعند العديد من كتاب القصة والمهتمين بالأدب في عالمنا العربي, هاجسها الكبير انصب على قضايا اليمن وفلسطين والإنسان. فراح العديد من المهتمين بالتذوق الأدبي أو نقده يساهم في نشر قصصها على الكثير من صحف ومجلات الشأن الأدبي. حيث نشرت لها جريدة الدستور العراقيّة, وجريدة منبر التحرير المصريّة, وجريدة الأسبوع الأدبي لتحاد الكتاب العرب في سوريّة, والعديد من الجرائد والمجلات العربيّة. كما نشر لها العديد من المواقع الالكترونيّة العربيّة مثل الحوار نيوز في لبنان, وساحة التحرير في العراق, ونشرة المحرر في المغرب العربي, وصحيفة المثقف في المهجر, والسياسي في الأردن, وهناك موقع تللسقف في العراق. وغيرها. بل أن هناك من راح يترجم لها بعض قصصها إلى اللغة الانكليزيّة. وللقاصة مجموعة قصصيّة واحدة مطبوعة حتى الآن. ولديها محاولات شعريّة جميلة
في تواصل جرى بيننا اقترحت عليها أن أجري لها دراسة نقديّة على بعض قصصها, ولا أقول أعمالها فكانت استجابتها سريعة, علما أنني قد قمت بإرسال أحد قصصها الابداعيّة (دافنشي)إلى مجلة “الأسبوع الأدبي” لاتحاد الكتاب العرب في سورية, فكانت الاستجابة سريعة في النشر من قبل المعنيين بشأن مجلة “الأسبوع الأدبي”.
أرسلت لي القاصة المبدعة “وسيلة” قصتين من نتاجها لتكون محط دراستي لها وهي:
1- ثلاث ساعات.
2- الغريب.
العتبات السيميائيّة في عنواني قصتيها ورموزها:
في عنوان قصتها الأولى (ثلاث ساعات), يحمل دلات تحولات نفسيّة وأخلاقيّة وقيم نبيلة, تتركها فتاة جميلة كاسمها (كوثر) في مواقف لص شبه متشرد هو محمود بطل قصتها, جعلته، يفيض بمشاعر دافئة راحت معها روحه تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.
وفي قصتها (الغريب): دلالة عميقة في مضمونها أيضاً, وهي تشير إلى الفلسطيني الذي حمل قدر مأساته بكل ما تحمله من قهر وجوع وتشرد ليجد نفسه دائماً يعيش الغربة في عالم فقد الأحاسيس الإنسانيّة بهذه المأساة.
البنية السرديّة في قصتي (ثلاث ساعات والغريب):
في بنية قصتها الأولى (ثلاث ساعات): نجد القاصة ” وسيلة تسلط الضوء على رجل حرمته الحياة لذتها بسبب الحرب, فتحول إلى شبه لص يبحث عن لقمة عيش ومكان هادئ تحت ركام ما خلفته الحرب بكل جنونها.
(الثانية عشر منتصف الليل, كان يسير بخطى وئيدة, مشتملاً قتامةَ روحه, يشق عباب نقمته المسفوحة فوق ملامحه المكفهرة, يركل كل ما يصادفه أمامه باستياء مرير.
وقف قبالة منزل أدرك أنه تعرض لقصف صاروخي, الظلام يلف المكان, أغلب أهالي الحي النائي نزحوا من مساكنهم بعد القصف.
فكر بدخول أحد المنازل.. لكن قبل ذلك دفعه فضوله لاستكشاف ذلك المنزل المهدم جزئياً, تسلل اليه وهو يتلفت يمنة ويسرة بحذر شديد.. ترامى لمسمعه صوت أنين خافت أفزعه، قادم من تحت ركام كثيف في إحدى الزوايا.. حركه شعوره الإنساني الذي حاولت الحرب دفنه, وأيقظ ضميره من غفلته.. تراجع عن فكرة المغادرة، انتابته رغبة جامحة في تقديم المساعدة، وإن كان قد حرم من كل شيء. كانت فتاة (ملاك) أنقدذها من بين الركام وأسعفها إلى المشفى القريبة بعد معاناة فرضها عليمها المناخ الماطر بكل قسوته, وأثناء رحلة العذاب هذه تحركت كل هواجسه الإنسانيّة لتعيد إليه إنسانيته التي وجدها مرة ثانية من خلال انقاذه لهذه الفتاة (كوثر). بهذا الموقف الإنساني تختم “وسيلة قصتها) الرائعة: (أملت عليه رقم جوال أحد أقاربها، أُدخلها المشفى.. انتظر حتى اطمأن لقدوم شخص يسأل عنها.
نظرا لبعضهما نظرة أخيرة طويلة، فاضت مشاعر دافئة صعب البوح بها. الفجر يبتسم في وجه الأفق .. روح محمود تعرج بمحاريب وضاءة من سَحَر إلى سماء الطهر والنقاء.. لوحت له كوثر مودعة، غادر وهو يردد في نفسه: من يدري لعلي ألقاك يوما وأنا الملاك الذي ظننتِه. ثلاثُ ساعاتٍ انصرمت كـأنما قَدَّت لعمره من ضَيِّ الإشراق دهرا.
البنية السرديّة في قصتها الثانية الغريب :
قصة لا تخلوا من الفانتازيا, إلا أنها ليست بعيدة عن عالم معاناة الشعب الفلسطيني الذي يعاني كل أشكال القهر والظلم والجوع والألم والتشرد, فتاة تخرج مع زميلات لها يبحثن عن لقمة عيش في عالم المجهول, عالم فقد كل الأحاسيس الإنسانية.( المكان خال إلا منها ، يغشاه سكون خائف من سكونه … لم يكن لها بد من مواصلة السير.. الطريق وعرة شاقة .. أحجارها الحادة المتناثرة تخترق حذاءها المتهالك تدمي قدميها. لم يثنها ذلك عن عزمها للوصول لمبتغاها، فهي تمسك وعاءها تمني النفس بالعودة ظافرة بشيء من طعام تسكت به صراخ معدتها وأمها العاجزة التي تنتظرها في مخيم مضرج بأوجاع الشتات.. يلوح في خلدها رغيف شهي لكنه ذاو في مسافات المحال.). لاحت لها أضواء قصر منيف لم تر مثله ، تحيط به حديقة غناء، تتدلى من أشجارها بسخاء صنوف من الثمرات والفاكهة.. انتابها الذهول, لم صدق ما تراه :(هل أنا في حلم ؟ كيف لم يصل أحد لهذا القصر وكيف لم يطاله القصف والمدينة قد دمرت، وكيف نجوع وكل هذا الخير ليس ببعيد عنا؟؟.)
نعم هكذا تدور فانتازيا أحلام اليقظة حول قصر مليء بالخيرات هو (فلسطين) الواقع الذي استلبته قوى الغدر من أهله, ورغم ذلك لم يزل هناك من يتمسك به ويعمل على عودته لأهله رغم كل الدماء التي سالت ولم تزل تسيل من أجل استرداده. (هالها ما رأت، كادت تصرخ .. فالرجل نصفه الأيمن من جسده مثخن بجراح تقطر دما، اقشعرت أوصالها، تساءلت : ـ كيف لا يتألم، كيف له الوقوف بهذا الثبات ؟.. لم لا يداوي جراحه ويوقف نزفها؟..أسئلة كثيرة اقتحمت رأسها.. استجمعت قواها وحاولت الدخول .. لكنه منعها.. دعني أدخل … لا.. كان صوته غريبا كأنه آت من البعيد من آخر نقطة في الأفق .. جائعة وأهلي جائعون, أيام مضت ونحن بلا طعام دعني أدخل، من حقنا أن نأخذ شيئا من هذا الخير, نحن في مجاعة، لا يحق لك منعي.
سمح لها أخيراً أن تدخل القصر المليء بالخيرات… أذهلها الغريب الجريح .. ظلت كلماته عالقة في وجدانها.. ترامى لسمعها أصوات رفاقها.. استدارت تناديهم :
ـ أنا هنا.. وقد وجدت طعاما كثيرا سيغني المدينة بأسرها ركضت نحوهم … لكن يا للهول وجدت نفسها مرة أخرى تائهة, رأت جماعة من الناس يتحلقون حول جثة شهيد يزفونه نحو المقبرة… اقتربت منهم، تأملت الشهيد.. هالها ما رأت ..وقع الوعاء من يدها وأخذت تصرخ :
ـ إنه هو .. إنه هو بكوفيته .. بجراحه النازفة. أقسم أنه كان يحدثني قبل قليل.
نعم هو المناضل الفلسطيني الذي لم ولن يمت, وأرواح المناضلين التي تتناسل من رحم الأرض والمعاناة ستبقى تتناسل.
الزمان والمكان في القصتين:
بالرغم من أن القاصة وسيلة يمنيّة المنبت والهوى, إلا أن المكان عندها مفتوح هنا على مجالاته العربيّة, وخاصة فلسطين التي شكلت عندها مكاناً مفتوحاً على كل جغرافيته ودلالاته الإنسانيّة, وهذا ما جعل الزمان لديها أيضاً مفتوحا على دلالاته الإنسانيّة المطلقة والذي تجلى في تركيزها على مسألة الحروب وما تخلفه من دمار للإنسان في كل زمان ومكان,, فالقيم الإنسانيّة النبيلة شكلت عند القاصة وسيلة محطات عديدة ومفتوحة على المطلق.
البعد الفني في قصتي الغريب وثلاث ساعات عند القاصة وسيلة:
هناك الشكل البسيط في تشكيل القصة, يعتمد على عرض الحكاية من خلال السرد والوصف في أسلوب شاعري رقيق وألفاظ غنيّة وصور بلاغية جميلة جاءت مواكبة لأحداث القصة الأمر الذي منحها جمالية خالية من الصنعة والترف السردي أو مجانيته .. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة, والممتلك لقدرات فنية اكتشفها من خلال تجربته الفنية. هذا وقد اعتمدت الوضوح المستمد من عمق الرؤية وعلاقاتها المتينة مع المتلقي, بحيث لا يوجد حاجز بين الكاتبة والمتلقي.
وفي الشكل الفني أيضاً: هناك وصف رائع للشخصيات, يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً مستخدماً ألفاظاً سهلة عذبة رقيقة ترتفع بالأسلوب إلى مستوى الشعر. وبالتالي اعتمدت القاصة على الوصف الخالي إلى حد بعيد عن الاسهاب والاستطراد, فكان بناء القصة متماسكاً, والشخصيات مرسومة بدقة سيطر فيها الكاتب على احداث القصة سيطرة تامة. الأمر الذي جعل العمل القصصي مذهلاً,
هذا وقد امتازت القاصة بحسها الفني الرقيق, وذوقها المثقف, ورهافة اللفظ, وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي رسمتها بدقة, فبرزت أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة, وكشفت عما تعانيه من صراع مع نفسها, أو مع الآخرين, ولأن هذه الشخصيات سويّة وواعية وعندها ضمير يقظ استطاعت الخروج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف, وهذا أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين, لقد جسدت وسيلة في عمليها سلوكاً طبيعيّاً لا افتعال فيه, وبالتالي استطاعت أن تدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون الانتصار عبرة للآخرين .. ليؤكد أن الخير الأساس في الإنسان وبه تستمر الحياة والعلاقات بين الناس.
أما بالنسبة لطريقة السرد التي اتبعتها القاصة, فقد اعتمدت على ما يسمى الرؤية من الخلف :
ففي هذه الحالة يكون السارد أكثر معرفة بالشخصيات (أي السارد – الشخصيّة), هو يعرف ماذا يجري خلف الجدران وفي أعماق البطل وفي ذهنه أو ما يشعر به نفسه, فليس لشخصياته أسرار, إنه سارد عالم بكل شيء وفي كل شيء.
بتعبير آخر: في هذا الأنموذج يكون السارد العالم بكل شيء والحاضر في كل مكان. فالسارد كلي العلم الذي نحن بصدد تحديد إشكالياته. والسارد العليم هنا مثل المؤلف المسرحي الذي يضع بعض «الإرشادات المسرحية» لتأطير العرض المسرحي، وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها.
الدلالات الإنسانية في شخصيات قصص وسيلة:
الشخصيات ليست كلها خيرة من حيث المبدأ, ففيها ما هو سيئ كما هو الحال في قصة “ثلاث ساعات” شخصية محمود. بيد أن القاصة بينت ما هي الظروف التي ساهمت في تكوين هذه الشخصيات وخاصة محمود. وهو الإنسان الذي إفقدته الحرب بعض قيمه النبيلة وكاد أن ينحدر إلى الهاوية ويتحول إلى لص لأنه لا يملك القدرة على التحكم في سلوكه أو تفكيره نتيجة عدم الخبرة أو افتقاره الثقافة.
دور الكاتبة في تصوير شخصياتها:
يبدو لنا أن القاصة ذات خبرة عميقة في تصوير أحداث قصصها ورسم شخصياتها. فالكاتب المبدع ذو الخبرة والثقافة العالية يمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنية والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة تمكنه من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها. وهذا ما تجلى واضحاً في شخصيات القصتين موضوع الدراسة, فهي شخصيات مشبعة بالحس الإنساني والقيمي العال.
أهداف العمل القصصي عند وسيلة:
رؤية أخيرة في الرواية, وطموح الراوي:
أرادت القاصة أن تقدم رؤيتها الخاصة للحياة عبر وسيط فني وجمالي تألفه ويناسب أوتارها النفسيّة والأخلاقيّة والقيميّة والفكريّة والوجدانيّة. وجدت في هذه الرؤية ملامح من تراثها وبيئتها وابداعاتها المحليّة والعربيّة, التي تجسد فيها الخوف من الموت والمجهول, وأحلامها بالعدل والبطولة والحريّة والمساواة.
كاتب وباحث وناقد من سوريا.