دراسة نقديّة لقصة (لعبة الكراسي), للقاصة السينارست فتاة سليمان.

د. عدنان عويّد

فتاة سليمان, أديبة وكاتبة سيناريو من سورية, تحمل إجازة في اللغة الانكليزيّة, لها محاولات عديدة في كتابة القصة القصيرة, ما يميز كتاباتها القصصية العمق الفكري والبحث عن قضايا إشكاليّة في عالم الفرد والمجتمع.

اخترنا من بين أعمالها القصصيّة, قصة (لعبة الكراسي) وهي موضوع دراستنا.

البنية الحكائيّة أو السرديّة للقصة:

تقول القاصة عندما كانت (صغيرة), كانت تلعب مع رفاقها لعبة الكراسي, وهي لعبة يوجد فيها كراسي أقل من عدد اللاعبين بكرسي, ولها (حكم) يحمل صافرة, وعندما يبدأ اللاعبون بالدوران حول الكراسي يصفر الحكم, والشاطر في مهاراته البدنيّة والذهنيّة هو من يجلس على الكرسي ويخرج منتصراً, ويبقى الخاسر وهو الشخص الذي مهاراته هي الأقل … هي لعبة كانت تتصورها أو تتخيلها بطلة القصة بأنها لعبة رياضيّة, تعتمد على المهارات الشخصية للاعب, ومدى قدرته على مسك الكرسي والجلوس عليه في النهاية, بغض النظر عن لون وجنس وشكل وانتماء اللاعب.

أما اللاعب الخاسر, فتجده في نهاية اللعبة يفكر بصوت داخلي محدثاً نفسه: ( كم هو الألم الذي كنت أتعرض له حين يصفر الحكم .. رِجْلٌ تركنني من هنا, ويد تلكزني من هناك.. لم أكن أحزن أو أغار منهم فليس عليهم ملامة .. فكل منهم يريد الفوز لنفسه, لأن الخسارة تعني الخروج من اللعبة.. وكم حزنت حين خسرت ..وبدأت أعاتب نفسي .. هل كان أدائي ضعيفا؟, أم أنني لم أكن أجيد اللف والدوران حول الكرسي؟..).

أما الجمهور, وفي كل مرة كان  يزاح كرسي تجده يصفق للرابح ويسخر من الخاسر..

بيد أن القاصة – وهي بطلة القصة -, عندما خرجت من اللعبة وجلست بين الجمهور, أدركت عندها أن الحكم كان يطلق صافرته حين يرى اللاعب الذي يريده أن يفوز في موقع يسمح له بالحصول على الكرسي دون عناء أو جهد .. وأدركت أن الخاسر الوحيد في مثل هذه الحالة كانت هي.

البنية الفكريّة للقصة:

تدخل البنية الفكريّة للقصة في عالم القصة الرمزيّة, وهي تريد أو تهدف برمزيتها, إلى القول بأن المجتمعات المتخلفة في منطقها وقيمها السلوكيّة والأخلاقيّة تحابي القريب على الغريب في تحقيق المنافع المعنويّة أو الماديّة, وهذا يحدث في السياسة أكثر وضوحاً, ففي السياسة تجد الحاكم يقرب من يصفق له ويكون ولاءاه مطلق حتى ولو كان فاشلا في مهاراته وقدراته في المهمة التي يكلف بها, ويبعد الأكثر قدرة ومهارة وخبرة.. فالولاء يأتي قبل الخبرة والكفاءة. وكذا الحال نجده في العلاقات الاجتماعيّة, فالقريب أولى بالمعروف, و(حبيبي يا نافعني) كما يقول المثل الشعبي.

البنية الفنيّة للقصة:

أولاً- البنية السيمائيّة أو الدلالية للعنوان: (لعبة الكراسي):

يشير العنوان في دلالاته العميقة, بأن الوجاهة والمكانة الاجتماعيّة والسياسيّة في الدولة والمجتمع, هما هدف عند الكثير من أبناء المجتمع, بيد أن الحصول عليهما يظل محفوفاً بمعوقات كثيرة داخل المحيط الذي يتواجد فيه طالب هذه الوجاهة والمكانة, وهذا ما بيناه عند حديثنا عن البنيّة الفكريّة للقصة.

ثانياً: الرمز في القصة:

الرمز هو الإيماء والإشارة والعلامة. والرَّمْزُ (في علم البيان) هو الكناية الخفيَّة، وجمعها رُمُوزٌ. وبالتالي هو أسلوب فني يستخدمه الأديب، بحسب تجربته الشّعوريّة أو نظرته الفنيّة، ويساهم في تشكيل المعنى الذي يودّ هذ أو الأديب أو ذاك إيصاله إلى المتلقي. والرمز قد يكون كلمةً أو عبارةً أو شخصيّةً، أو اسم مكان، وهو يتضمن دلالتين، إحداهما مباشرةٌ وظاهرةٌ ويمثل هذه الدلالة مثلاً (علم أو تمثال أو صرح فني أو شخصيّة تاريخيّة أو معاصرة لها حضورها في حياة الأمّة أو الشعب.. الخ)، والأخرى باطنةٌ مرتبطةٌ بالمعنى المُراد تبليغه، مثل استخدام الحمامة رمزًا للسلام، والدماء رمزًا للحرب والقتل، والمطر رمزًا للخير، والميزان رمزًا للعدالة.

على العموم نستطيع القول إن الرمز هو اقتصاد لغوي يكثف مجموعة من الدلالات والعلاقات, في بيئة ديناميّة تسمح لها بالتعدد والتناقض … وهو لذلك علاج لنقض المنطق، وضيق البنى التي ترفض التناقض والاختلاف، كما أنه علاج لجمود المعطيات والمفاهيم الثابتة. فمن خلال الرمز يمكن للأدب تجاوز الثبات للتعبير عن أوجه التناقض، أو الكشف عن الثنائيات المتقابلة التي تشمل الوجود الانساني.

وهذا في الحقيقة ما وجدناه في قصة الأديبة “فتاة سليمان”, فالرمز بكل دلالاته واشاراته إن كان كلمةً أو عبارةً أو شخصيّةً، أو اسم مكان.

إن (الكرسي) هنا, جاء دلالةً على المكانة الماديّة أو المعنويّة بكل أشكالها التي يحوز عليها الفرد في مجتمعه, ففي القصة جاءت دلالاته تحمل بعداً اجتماعيّاً وسياسيّاً كما بينا عند حديثنا عن البنية السيمائيّة لعنوان القصة. و(الحكم) هو القاضي الذي يحكم بين الناس.. و(الصافرة) هي القانون الذي يخضع له الناس, و(الجمهور) هو القطيع الذي يحكم على الظاهرة من الخارج ولا يدخل في أعماق ما يجري أمامه من أحداث… الخ.

لقد استطاعت القاصة “فتاة” أن تستخدم الرمز في حرفيّة عالية تنم عن قدرات فكريّة وفنيّة وأسلوبيّة عاليّة, تحقق الدهشة عند المتلقي. وهذا يعود إلى اشتغالها في كتابة السيناريو التي تساهم في تكثيف الفكرة والغوص في أعماق الشخصيّة.

ثالثاً: اللغة:

لقد جاءت اللغة في عمومها عند القاصة “فتاة” سليمة وفصيحة, وسهلةً, وواضحةً, سمحةً, ناصعةً, ومسبوكة الألفاظ, ومنسجمة مع بعضها في بنية القصة, وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة الصياغة وتسلسل العبارات وتخير الألفاظ وإصابتها لمعناها, كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الذي استخدمت فيه هذه اللغة من قبل القاصة بقدرات تعبيريّة باهرة, وهذا يدل في الحقيقة على ثراء المفردات عندها وبالتالي امتلاكها قدرة التعبير وقوة وتصوير الحدث ببراعة في آن واحد. وهذه القدرة لا تأتي إلا من خلال وعي القاصة أيضاً بقضايا المجتمع بأفراحها وأحزانها, إضافة لعمق إحساسها.

رابعاً: الغموض في القصة:

لقد قلنا بأن القاصة الأديبة “فتاة” قد اشتغلت عل المنهج أو المذهب الرمزي, وهذا ما يؤدي إلى خلق حالات من الغموض في فهم دلالات النص عند المتلقي البسيط, فالكرسي هنا ليس لعبة رياضيّة فحسب .. والصافرة ليست لضبط اللعبة الرياضيّة.. والدوران حول الكرسي ليس حركات تهدف إلى الوصول إلى الكرسي.. وتصفيق الجمهور للفائز ليس احتفاءً بانتصاره في هذه اللعبة .. الخ ففي كل هذه الرموز كانت تشير إلى المسكوت عنه, وما يحمل من دلالات تعبر عن قيم اجتماعيّة وسياسيّة وأخلاقيّة وثقافيّة كما بينا عند دراستنا لقضية الرمز في القصة أعلاه.

ملاك القول:

نعود لنقول: إن الأديبة القاصة والسيناريست “فتاة سليمان”, أنموذجا للقاص المبدع الذي لا تهمه زخرفة اللفظ والعبارة, أو البحث عن المدهش في الصورة والبيان والمحسنات البديعيّة لشد المتلقي, بقدر ما يهمها الفكرة التي تفرض على هذا المتلقي أن يدرك عمق دلالاتها الإنسانيّة, ومدى قدرتها على التغير في البنية الفكرية والسلوكية له.

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

d.owaid333d@gmail.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لعبة الكراسي.

فتاة سليمان

ّعندما كنت صغيرة كنت العب مع رفاقي لعبة الكراسي.. حيث نضع عدداً ن الكراسي أقل من عدد اللاعبين بواحد, ونبدأ بالدوران حولها.. وهناك شخص يراقب اللعبة .. وحين يطلق صافرته كان على كل منا أن يجلس على كرسي.. ولأن عدد الكراسي أقل من عددنا .. كان على الشخص الذي لم يحظ بكرسي أن يغادر اللعبة .. وقبل أن يطلق الحكم صافرته للبدء بدوران جديد .. وجب علينا أن نزيح كرسياً كي تبق الحالة التنافسية موجودة..إلى أن نصل لنهاية اللعبة حيث يبقى كرسي واحد ومتنافسان.. أقصد لاعبان .

. وفي كل مرة كنا  نزيح كرسياً كان الجمهور يصفق للرابح ويسخر من الخاسر..

. لهثت كثيرا ولكني لم أحظ بكرسي..

. لم أسى كم الألم الذي كنت أتعرض له حين يصفر الحكم .. رجل تركنني من هنا ويد تلكزني من هناك..لم أكن أحزن منهم فليس عليهم ملامة .. فكل منهم يريد الفوز بكونه لنفسه لأن الخسارة تعني الخروج من اللعبة.. كم حزنت حين خسرت ..وبدأت أعاتب نفسي .. هل كان أدائي ضعيفا؟, أم أنني لم أكن أجيد اللف والدوران حول الكرسي؟… ولكن عندما خرجت وأصبحت بين الجمهور أصبحت الرؤية عندي أوضح.. وأدركت أن الحكم يطلق صافرته حين يرى اللاعب الذي يحب في موقع يسمح له بالحصول على الكرسي دون عناء او جهد .. وأدركت أن الخاسر الوحيد إن كان عدد الكراسي يساوي عدد اللاعبين هو أنا.