دراسة نقديّة لقصة (للقندريس البرّيّ..) للأديب القاص ”  محمد باقي محمد”

د. عدنان عويّد

الأديب ”  محمد باقي محمد” خريج جامعة دمشق – كلية الآداب قسم الجغرافيا – دبلوم التأهيل التربوي، يعمل حاليّاً مدرساً في اختصاصه – عضو اتحاد الكتاب العرب – جمعية القصة والرواية منذ عام 1989- عضو في المكتب الفرعي لاتحاد الكتاب العرب في مدينة الحسكة.

نشر الأعمال التالية:

– أغنية منتهية بالرصاص -قصص  – 1986

– عن اختفاء العامل يونس –قصص – 1988

– الطوفان  –  قصص – 1991

– فوضى الفصول – رواية – 1997

– للقندريس البرّي.. مجموعة قصصيّة . ومنها القصة موضوع دراستنا.

له قيد الإعداد, مجموعة قصصية بعنوان: (هواجس شخصيّة).

ينشر في الدوريات العربيّة والمحليّة. ترجمت متفرقات من أعماله إلى البلغاريّة والروسيّة والكرديّة.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

تعالج القصة قضيّة من قضايا السجناء السياسيين في عالمنا العربي, وهي من القضايا التي تعبر ليس عن استبداد السلطات الحاكمة وقهرها لشعوبها ومحاصرة حريّة الرأي فحسب, بل تعالج أيضاً كيف يعامل الإنسان المختلف سياسيّاً في سجون هذه السلطات المستبدة.

“سليم”, ناشط سياسي, ينتمي لأحد التنظيمات السياسيّة المحضورة في البلاد, التي لا يجيد أعضاؤها التهريج والتصفيق للنظام السياسي الحاكم, وخاصة لقائده الملهم … يلاحق لفترة زمنيّة, لكن رفاقه يؤمنون له ملجأً بعيداً عن أعين المخابرات والمخبرين خارج مدينته لفترة من الزمن.. وهو في ملجئه, تصله عن طريق أصدقائه بأن والدته مريضة وهي على فراش الموت.. يقرر ترك مخبئه والذهاب إلى مدينته حيث يسكن أهله وزجته وابنته الطفلة التي تركها بعد ثلاثة أشهر من ولادتها… قبل وصوله منزل أهله يقبض عليه ويقاد إلى السجن ليحكم عليه بالأعمال الشاقة المؤبدة.

هناك في غرف التعذيب, والغرف المنفردة, يصف لنا ” سليم” كيف تتم عمليات التعذيب للسجناء.. ومن عاش حياة السجن السياسي ليس كمن سمع عنه!.

يقول القاص “محمد باقي محمد”: في السجن تغيب كل القيم الإنسانيّة.. فوسائل التعذيب وأدواتها تدخل في عالم آخر من الإجرام المشرعن, وتكون أكثر قسوة وشدّة على الذين يتمسكون بمبادئهم وبأسرار تنظيمهم ولا يفشون منها شيئاً, وهذا ما كان عليه حال ” سليم” الذي (صمد في وجه جلاّديه، فلم يفلح الإطار المطّاطيّ، ولا الكرسي الألماني، ولا المنع من النوم ولا الكهرباء التي تلامس مناطق الجسد الحساسة أو المنع من شرب الماء, ولا تعليق الجسد بكلاب يكون فيه الرأس إلى الأسفل والقدمين إلى الأعلى. ولا استخدام الدولاب وتناوب العصي و(القرابيج) على القدمين وكل تضاريس الجسد دون رحمة أو شفقه… ولا… ولا…. للنيل من إرادته، إذ لم تصدر عنه حتى النأمة، فمنعوا عنه أي اتصال بالخارج، وعجز عن معرفة ما حلّ بزوجته الشابّة، أو بابنته ذات الأشهر الثلاثة، أو بأهله، لأنّ سنوات التخفّي كانت قد جبّت رؤيتهم عنه!.

في السجن السياسي تتعدد أصناف وأساليب التعذيب – التي يتفتق عنها الذهن البشريّ في وجوه وأجساد السجناء … فالتعذيب كما يقول “سليم”: يظلّ مبذولاً كالهواء على مدار الساعة، ليطال كل تفاصيل الجسد دون رحمة.  ثمّ إنّ السجّانين سيعمدون إلى إحياء طقوس حفلهم الغريب، كما لو كانوا يحتفلون بمناسبة شخصيّة، لقد أعدّوا لكلّ شيء، – مُذ تكهّنوا باقتراب موعده – راحوا يجتهدون في إعداد عصي وسياط مختلفة في أطوالها وسماكاتها، وسط مظاهر احتفاليّة يشوبها صخب يُتناغم وحبورهم اللافت، لقد طالهم السجن في إنسانيّتهم فشوّهها، إنّهم يستمرؤون تعذيب المساجين كما لو كانوا يحقّقون إنجازاً يُسجّل لهم.

ولكن من الذي يشرعن حقّ احتجاز إنسان من قبل آخر مثله؟! الحقّ.. وما هو الحق؟! من الذي يحوز التخويل بإثباته؟! ومن المُخوّل بنفيه؟! ثمّ أين الصواب فيما تقدّم من الخطأ؟! بل ما هو الصواب، وما هو الخطأ؟! كيف يتحدّد هذا من ذاك؟! ومن هو الحكم المجاز بالفصل بينهما؟!. أسئلة الحق واختراقه كثيرة تطرح في سجون الأنظمة المستبدة في عالمنا العربي ولا جواب.

في باحة السجن الضيقة.. تجمع السجناء يتهامسون حول قضيّة انتشرت كالنار في الهشيم عند السجناء. بأن هناك مقابلة تمت بين السجين “سليم” وفتاة, وقد أعطته صورة لفتاة. رغم ضحالة هذه المسألة, إلا أن السجن بكل عذاباته وما حققه من حرمان للسجناء ومنه الحرمان الجنسي, جعل من قضيّة الفتاة والصورة موقفاً شغل بال وعقل وعواطف السجناء لمعرفة الصورة ولمن تكون.

كان السجناء قد لاحقوا “سليم” في الباحة طويلاً، مدفوعين بتوق عارم لمعرفة صورة أنثى.. أيّ أنثى.!، فيما وقف بعضهم مدهوشاً يتأملون، “سليم” متسائلين عن السبب، لقد حاول أن يتخلّص منهم، إلاّ إنّ محاولاته أخفقت، كانت الباحة ضيّقة، ولم يكُ ثمّة منافذ للهرب، لهذا سرعان ما أمسكوا به، وألقوه على الأرض، لينتزعوا منه الصورة، فتشبّث بها بكلّ ما فيه من قوّة، ولكن ما الذي يستطيعه فرد أعزل في مُواجهة جمع أهوج؟! وعندما انتزعوها، وقرأوا ما كُتب على ظهرها، وقفوا في مُنتصف المسافة ملجومين بالذهول، وأسقط في أيديهم، إذ لم يعد التراجع مُتاحاً، ثمّ إنّ الندم ما عاد يُجدي، ولا الاعتذار، فكيف يعبّرون عن أسفهم وأساهم؟! أيّ كلام يمكن أن يُساق في مقام كهذا؟! على هذا طأطأوا رؤوسهم، وتناؤوا على تعثر وخجل بخطوات مُرتبكة، تماماً كما صورة سينمائيّة أبطئت حركتها، هل تمنّوا أن تغور بهم الأرض حين قرأوا الكلمات على ظهر الصورة؟! كانت ابنة “سليم قد كتبت لأبيها ” أبتي.. لقد اشتقت إليك كثيراً؟! ” ووثقت كلماتها في الأسفل بـ ” ابنتك المحبّة بثينة “!.

البنية الفكريّة للقصة:

كانت ولم تزل دول عالمنا الثالث تُحكم بالحديد والنار, من قبل قوى سياسيّة لم تفكر يوما بمصالح شعوبها, بقدر ما تفكر بمصالحها, حتى عندما تهتم إلى حد ما بمصالح هذه الشعوب, فيأتي هذا الاهتمام من منطلق شعبوي, وليس من منطلق قانوني ومؤسساتي يقوم على فكرة أن الشعب هو المصدر الأساس للسلطة, وليست اَلْغُلْبَةُ والوراثة والتدليس السياسي وشراء الأصوات والاعتماد على الفاسدين والمفسدين في الوطن, وبالتالي فالشعب هو من يأتي بهذا الحاكم أو ذاك بإرادته, وهو من يختار نظام حكمه ودستوره وطبيعة نظامه البرلماني وفقاً لمصالحه.

تحت مظلة هذه الأنظمة الشموليّة الاستبداديّة, فمعظم أنظمة الدولة وسياساتها الداخليّة والخارجيّة يشرع لها وفقاً لمصالح الحاكم المستبد, فهو من يحدد مفردات الدستور, وصيغ الديمقراطيّة والعلمانيّة, والمتاجرة بها, وهو من يختار فريقه السياسي والاقتصادي والثقافي والاعلامي, وأي خروج عن ما يخطط له الحاكم بأمر الله, يعتبر انتهاكا لقيم الوطن والمواطن, وهنا يأتي الجيش والقوى الأمنيّة لتعيد رسم ملامح الطريق الصحيح لمن تسول له نفسه الخروج عن عالم ” القندريس البريّ”.

البنية الفنيّة والجماليّة للقصة:

عنوان القصة:

لم يأت عنوان القصة (للقندريس البري) عبثاً, بل جاء مدروساً وبعناية فائقة. “فالقندريس البري”  هو نوع من النباتات الشوكيّة التي تعيش في الصحراء, وتفتقد إلى العناية من قبل الإنسان, ورغم أن في ثمرها ما يشفي الإنسان من بعض امراضه, إلا أن  الشوك المحيط بها أفقدها حضورها لدى الإنسان, وهذا ما ينطبق على حياة الإنسان السجين السياسي الذي وضع في سجن مليء  بالعذاب (الشوك), حتى فقد دوره ومكانته الاجتماعيّة, رغم إنسانيته.

الشكل الفني القصصي :

إن القاص المتمكن من حرفته, يمهد للحدث ويهيئ الجو له بسلاسة وتنسيق, يستجيب مع المواقف بشكل يثير الشوق ويجذب القارئ لمعرفة النهاية. وهذا ما تم في القصة منذ بدايتها فبراعة القاص ” محمد عبد الباقي محمد” تجلت في تصوير أو وصف حالة ارتباك المساجين النفسيّة والجسديّة عندما راحوا يتداولون بصمت وحذر مسألة الصورة التي وصلت إلى سليم, ثم انتقاله إلى كيفيّة القبض على سليم وما تلقاه من عذاب في السجن وأساليب التعذيب والسجانين, وصولاً إلى كشف سر الصورة, وما حل بالمساجين الذين جعلهم الحرمان الجنسي يبذلون طاقة جهدهم لمعرفة صاحبة الصورة. لم تكن نهاية القصة مفاجئة, بل كانت منسجمة مع نسيج القصة ولا تبدو مقحمة وغريبة.

يمتاز تشكيل القصة بالبساطة, حيث اعتمد القاص في سرده الحكاية على الأسلوب الوصفي, ووضوح اللغة وغنى دلالاتها, وسهولتا, وهذا يشير إلى أن الكاتب قدير ومتمرس في الكتابة ويمتلك قدرات فنيّة تجلت من خلال تجربته الطويلة في الكتابة. لقد كان وصف الشخصيات في القصة رائعاً,  يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً  صيغت بألفاظ سهلة لكنها مشحونة بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين.

إن القصة بعمومه تفتقد إلى الحوار, وحتى عندما وجد الحوار في القصة  بين المساجين حول الصورة التي وصلت  السجين “سليم” كان يجري بحالة الهمس بينهم, وكأنهم يتحدثون عن أسرار لها خصوصيتها الأخلاقيّة والقيمّة.

إن فقدان الحوار ساهم في إبراز دور القاص من الخلف, أو ضمير المتكلم, وهو دور العارف بكل خفايا نفوس أبطال القصة, وما جرى لها داخل السجن, لقد كان يتحدث عن معاناتهم وقهرهم وعذاباتهم, وهذا ما جعل القصة تمتاز بوضوح الرؤية وسلاستها وبساطة عرض أحداثها, وبالتالي غياب الحاجز بين الكاتب والمتلقي. لقد كان بناء القصة متماسكاً, والشخصيات رغم بساطتها, إلا أنها أدت وظيفتها التي رسمها لها القاص في القصة.

الشخصيات في القصة:

تدخل قصة “للقندريس” البري” في مضمار القصة الاجتماعيّة/ والسياسيّة, لذلك استطاعت أن تقدم شخوصاً تشبه شخوص الواقع المعيش في ظروف أي سجن سياسي, يسهل التعرف عليها. أي إن القاص قدم في قصته شخوصاً هامدة ساكنة خائفة مسلوبة الإرادة والتفكير وحتى الكلام. وإن تكلمت فهي تتكلم بصمت يشوبه الخوف, وهذا ما جعل الوصف في أحداث القصة مسيطراً تماماً على متن أو بنبة القصة.

لقد استطاع القاص “محمد باقي محمد”  في الحقيقة, أن يقوم بتصوير شخصياته تصويراً عقلانيّا خارج نطاق الفانتازيا أو الخيال, فهو قاص مبدع ذو خبرة وثقافة عالية, ويمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة, مكنته من فهم النفس الإنسانيّة داخل سجون القهر والتعذيب ,ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها.

ميزات القص وأسلوب القاص:

يمتاز القاص بحسه الفني الرقيق, وذوقه المثقف, ورهافة اللفظ, وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي يرسمها بدقة, ويبرز أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة, ويكشف عما تعانيه من صراع مع نفسها, أو مع الآخرين, ولأن هذه الشخصيات, مقهورة ومضطهدة, إلا أن ما تحمله من مبادئ وقيم سياسيّة, يجعلها رغم ما تتعرض له من عذاب, قد ينال الجسد إلا أن الروح تظل فيها جذوة الأمل بالخلاص الفردي والجماعي تسعر في نفوسهم وهذا ما يساعدهم في الانتصار على أزماتهم والخروج في نهاية المطاف منتصرين على ضعفهم, وهذه أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين.

إن الشخصيات التي قام بتوصيفها القاص “محمد باقي”, كلها هامشية تقريباً عدا شخصيّة السجين “سليم” الذي سلط عليه الكاتب الضوء منذ القبض عليه حتى زيارة ابنته له وإشكاليّة الصورة التي وقعت بينه وبين السجناء, إن القصة في مجملها تقوم على وصف أدوات التعذيب في السجن, ووصف البعد النفسي والأخلاقي للسجانين الذين أفقدتهم مهنتهم حسهم الإنساني, حتى تحولوا إلى شبه وحوش بشريّة في أمكنة ضيقة محكمة الإغلاق يمارس فيها قهر وظلم الإنسان, بسبب انتمائه السياسي الذي يختلف عن البعد السياسي الحاكم. إن غياب الحوار داخل القصة, أفقد القصة معرفة بعدها الفكري والاجتماعي والسياسي للسجناء, لذلك ظلت أحداث القصة تدور حول السجن والتعذيب ومبدئية بعض السجناء في الحفاظ على أسرار تنظيمهم رغم ما يتعرضون له من عذاب, وتدور أيضاً حول الحرمان الذي يعانيه السجين ومنه الحرمان الجنسي.

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

d.owaid333d@gmail.com