دراسة نقديّة لقصة (هاتف الفجر). للباحث والأديب والمفكر – ماجد الغرباوي

د. عدنان عويّد

ماجد الغرباوي : مواليد – العراق – 1954. يقيم في سيدني – استراليا. كاتب وباحث ومفكر إسلامي عراقي، هاجر إلى استراليا في عهد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين, وحصل على الجنسيّة الأسترالية، وأسس صحيفة ومؤسسة المثقف بمدينة سيدني الأستراليّة – عمل ماجد الغرباوي في مجال التدريس، وترأس تحرير مجلة «التوحيد»، كما ترأس تحرير سلسلة «رواد الإصلاح» قبل أن ينشئ مؤسسة المثقف بمدينة سيدني بأستراليا في السادس من يونيو عام 2006، وهي مؤسسة ثقافيّة مهتمة بنشر الثقافة وقيم التسامح الديني، وتصدر عنها صحيفة المثقف، كما قدمت عدداً من الجوائز من بينها جائزة الإبداع، وجائزة المرأة، وجائزة المثقف.

أعماله ومؤلفاته:

ألف ماجد الغرباوي المتخصص في علوم الشريعة والعلوم الإسلاميّة، العديد من المؤلفات والدراسات, كما شارك في تأليف عدد من الكتب المتخصصة في الدراسات الإسلاميّة, إلى جانب ترجمة عدد من الكتب لمؤلفين آخرين إلى العربية، وفيما يلي بعض من أعماله المؤلفة والمترجمة:

من أهم مؤلفاته الفكريّة:

1- إشكاليات التجديد، 2000،

2- التسامح ومنابع اللاتسامح: فرص التعايش بين الأديان والثقافات، 2006.

3- تحديات العنف، 2009.

4- الضد النوعي للاستبداد: استفهامات حول جدوى المشروع السياسي الديني، 2010

5- الحركات الإسلامية.. قراءة نقديّة في تجليات الوعي: صدر عام 2015

6- المرأة والقرآن.. حوار في إشكاليات التشريع: صدر عام 2015

7- قراءة في تداعيات السلطة والحكم في العراق، 2016

8- نقد مرجعية التفكير الديني، 2018.

9- الهوية والفعل الحضاري، 2019.

10- مواربات النص، 2020.

11- الفقيه والعقل التراثي، 2020.

12- مضمرات العقل الفقهي، 2020.

13- تحرير الوعي الديني، 2021.

14- المرأة وأفاق النسوية، 2021.

15- تراجيديا العقل التراثي، 2021.

16- ومن الأعمال الأدبية التي صدرت له: يتهادى حلماً: نصوص أدبية – وهو مجموعة قصص اخترنا الأولى منها موضوعاً لدراستنا وهي بعنوان: (هاتف الفجر).

وترجم له:

1- الدين والفكر في شراك الاستبداد: صدر عام 2001.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

(هاتف الفجر, قصة قصيرة, من مجموعة قصصيّة بعنوان (يتهادى حلماً), للكاتب والباحث والأديب والمفكر الإسلامي التنويري “ماجد الغرباوي”,  تحمل بين طياتها روحاً جديدةً من القص الأدبي, تجاوزت المألوف في عالم القصة شكلاً ومضموناً, حيث يترك القاص المتلقي في عالم من الحلم واليقظة معاً, بل يتركه يبحث عن ذاته في عالم أخذت تتلاشى فيه الحقيقة, ولم يبق إلا الحب حلماً لتجاوز مأساة الإنسان. ولكن يظل السؤال الشقي يطرح نفسه في عالم اللامعقول هذا, أي حب هذا الذي سيتجاوز المأساة؟.

تقوم البنية السرديّة في قصة ” هاتف الفجر”, على تداعيات فكريّة مشبعة بهمس الروح والعقل المتعبين الباحثين عن الحقيقة, بعد أن حرك سكون هذه الروح وهذا العقل, ذلك اللقاء الذي تم بين بطل القصة, وهو القاص أو الراوي نفسه الذي يتحدث بضمير المتكلم هنا, وبين صديق له تناولا في هذا اللقاء حديثاً وديّاً, وبالرغم من أن القاص لم يحدد طبيعة شخصيّة هذا الصديق, إلا أننا نستشف طبيعة هذه الشخصيّة من خلال بنية السرد التي تشير إلى معاناة الواقع أو الحياة التي لا يراها القاص إلا: (مشهد بؤس, أو حطام ألم, لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها, أو عاشق هام في أرجائها.). فشخصيّة (الحكيم) هنا هو إما المتصوف الذي عرف الحياة وعاف شقاءها, وراح يبحت عن خلاصه في عالم الغيب أو المطلق, بينما شخصيّة (العاشق), فهي شخصيّة المفكر والفيلسوف الذي ارتبط بالواقع, وراح يبحث عن سر شقاء الإنسان وعذابه في هذا الواقع. ويبدو أن الشخصيّة الأقرب إلى صديق الكاتب هي شخصيّة العاشق, وهو المفكر والفيلسوف.

على العموم, لقد فجر ذلك اللقاء مع الصديق, كوامن النفس والروح والعقل عند بطل القصة الذي راح يشعر بعد ذلك اللقاء عندما خطا عدّة خطوات بعد خروجه حيث يقول: ( بأن سهام تبارت تقذفني, فلما أخطأتني كدت أفقد صوابي… تشبثت بأذيال الليل أستجير بظلمته, ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي. فتبددت أحلامي, واستسلم دمي, فرحت أتلمس نبضي.).. نعم هي هواجس ومعاناة الباحث عن الحقيقة الذي يسكنه القلق والخوف وحب المعرفة, فتراه يعيش حالات من القلق الذي يصل بصاحبه أحياناً إلى أشبه بالجنون, وهذا هو حال بطل القصة الذي شغله سؤال السهم الذي اخترق قلبه, أي سؤال الحقيقة أو المعرفة, حيث يقول: رحت : (أتابعه كي يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها… تارة أرمقه, أتيه برشقاته, وأخرى أهادنه حين يتحدى غروري. فمسني طائف من الجن, لم أستعذ منه إلا به, رحت أتوسل إليه, لم يبال وتمادى يغور في إعماق قلبي.. قلبي الذي لم تخطفه السهام, يترنح الآن تحت وطأته, لم يكن طائشاً فطال سهادي. فكرت أن أنتزعه لحظة. أتفقد جرحي, وأمسح فوق روحي التي ترنحت, تستغيث بخواء عزيمتي, فلم تستجب إرادتي.). ثم يتابع القول عن معاناة روحه وعقله: (ثم أفيق, أستعيد أنفاسي. أيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي, أرى الحياة مشهد بؤس, أو حطام ألم, لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها, أو عاشق هام في أرجائها.).

نعم هي معاناة وهواجس من نذروا أنفسهم لخلاص الإنسان فكراً أو سلوكاً, معاناة الفقراء والمعذبين والمستضعفين في هذه الحياة التي ليست هي عالمه وعالم صديقه حيث يقول:( ليست الحياة أنا وأنت, هي قلبي عندما يصغي لأهات المتعبين. ويواصل رحلته من أجل المعذبين… الحياة عتمة حينما ينطفئ نور قلبي, قاحلة يغزوها المتسولون. كم أرهقنا أنفسنا بحثا عن معنى يشدّنا إليها, كي ندرك أنها وهم مالم تفض قلوبنا حباً. كم أخاف على قلبي, أخاف على نبضه المتدفق حيوية.. كيف يخبو.. ماذا سيفعل به ذاك السهم الذي باغته.؟.).

وأخيراً يعود “القاص” الذي حرك سهم المعرفة عنده ذلك اللقاء الحواري مع صديقه, فشغل عقله وروحه وكل حواسه, حتى قض مضجعه وشغل وأربك وأضعف قواه, ليتساءل:

(كيف أستجمع قواي لاسترد أنفاسي, واستعيد الأمل الذي تبخر مع حرارة السهم؟… كيف أحتفظ بقلبي الذي تسكن إليه نجوم السماء.. أخذني الذهول حيث يشتهي, ولم أعد أعرف سوى الصمت, مذهولا تعصف بي الأوهام, فسمعت هاتفاً يقول: (الصمت أبلغ من أي كلام).  عند ذلك (هدأت روحي, غير أن عيني لم تفارق السهم وهو يغور بعيداً في أحشائي, حتى إذا اختفى يئست مستسلماً, لولا بارقة حين شعرت به يتلبسني).

البنية الفكريّة للقصة:

عندما يكون المجتمع مسرحاً للتناقضات والشعارات الزائفة وفريسة للطفيليين, يفقد الإنسان السوي نفسه لاهتزاز قيم المجتمع, وعلى هذا الأساس, فالكاتب العقلاني التنويري يهتم بالإنسان اهتماماً كبيراً .. فهو يد لله أحياناً, وأحياناً يقسو عليه ويوجهه مواجهة قاسية .. وأحياناً يأخذ بيديّه إلى طريق الأمان والسعادة والتلاؤم مع المجتمع .. والقاص (الغرباوي) يرى بأن ذلك لا يتحقق إلا عندما يعم الحب والخير .. وحب الوطن والإنسانية.

يريد القاص ” ماجد الغرباوي” الذي يسكنه هاجس المعرفة أن يقول أيضاً: تظل المعرفة سر خلود الإنسان وبارقة الأمل التي تشعره بأنه قادر بصبره وعزيمته وحبه للحياة والإنسان, (أن  ينسج من الفجر طيفاً ثملاً, وينثر الروح ياسميناً, ندىً فوق ذاكرة الإنسان لا يشبه العشق, ولا يدانيه الحب.). يقول “ماجد” لقد (عرفت كل ذلك عندما خانني قلبي وأفشى إليه بسري.).

البنية الفنيّة للقصة:

تظل القصة القصيرة تنتمي إلى الأدب القصصي, وتتميز باختصارها وإيحاءاتها العميقة واكتفائها بعدد قليل من الشخصيات, وربما تتعامل مع شخصيّة واحدة لا غير, ومكان واحد وزمان محدود. وتهدف القصة القصيرة إلى إيصال فكرة معينة أو إثارة إحساس معين لدى القارئ في وقت قصير.

هذا ويظل الشكل البسيط في تشكيل القصة, يعتمد على عرض الحكاية من خلال السرد والوصف الداخلي, في أسلوب شاعري رقيق وألفاظ غنيّة .. وهذا الشكل سهل وممتع لا يقدر عليه إلا الكاتب القدير والمتمرس في الكتابة ويمتلك قدرات فنيّة اكتشفها من خلال تجربته العميقة. فالكاتب المبدع ذو الخبرة والثقافة العالية يمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنان قدير يمتلك أدواته الفنيّة والثقافيّة والخبرة الطويلة مع الحياة, تمكنه من فهم النفس الإنسانيّة ومعرفة أسرارها وكوامن قوتها وضعفها. وهذا ما تميز به القاص “ماجد الغرباوي”

تأتي قصة “هاتف الفجر” لتؤكد سمات وخصائص القصة القصيرة, ولكن بلغة وأسلوب وتعابير, وبأفكار هي أقرب إلى روح مفكر وفيلسوف منه إلى أديب متخصص في فن القصة. فالمتلقي يجد نفسه في قصة “هاتف الفجر” أمام نص فكري يصوغه فيلسوف أو متصوف عرفاني وبرهاني في الوقت ذاته, شغلته معاناة الواقع فراح يبحت عن ذاته في هذه المعاناة, التي تأتي في هذا النص معاناة المجتمع أيضاً.

إن القاص ” ماجد الغرباوي” يمتاز بحسه الفني الرقيق, وذوقه المثقف, ورهافة ألفاظه, وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي يرسمها بدقة, مبرزاً أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة, ويكشف أيضاً عما تعانيه من صراع مع نفسها, أو مع الآخرين, ولأن هذه الشخصيات سويّة وواعية وعندها ضمير يقظ, فهي قادرة أن تخرج من أزماتها منتصرة مع نفسها في لحظات الضعف, وهذا أقوى انتصارا على النفس وعلى الآخرين. أي هو سلوك طبيعي لا افتعال فيه وبالتالي غالباً ما تكون هذه الشخصيّة في حالات تقلب مستمر, تارة تكون ضعيفة وتارة أخرى قوية.. فهي قادر أن تدير الصراع بين الخير والشر حتى يكون للانتصار عبرة للآخرين .. لتؤكد أن الخير هو الأساس في الإنسان, لتستمر الحياة والعلاقات بين الناس. وكل هذه السمات والخصائص تجلت في بطل قصة (هاتف الفجر).

إن الكاتب الذي عاش ظروف القهر والفقد والحرمان والغربة والمرض والفقر.. تجد في أعماله الحديث عن الحب والأمل والحنان وشواطئ الأمان

لغة النص وغموض الفكرة:

وبناءً على الأساس الفكري العالي الذي امتازت به بنية النص, جاءت لغة النص لغة متصوف عرفاني, تائه في فوضى المعرفة التي فقدت وضوحها, بسبب ما يشعر به القاص من ألم وعذاب يعيشه الفقراء والمستضعفون في الأرض. فهذه اللغة غالباً ما تفتقد عباراتها إلى الوضوح والدقة رغم سهولة ألفاظها وبساطتها.

(فلما أخطأتني كدت أفقد صوابي)… (تشبثت بأذيال الليل أستجير بظلمته), (ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي). فتبددت أحلامي, واستسلم دمي, فرحت أتلمس نبضي).( . فمسني طائف من الجن, لم أستعذ منه إلا به), (قلبي المتيم بالحب كيف تتمزق أنسجته, ويمتلئ سحباً داكنة؟.) .(أيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي, أرى الحياة مشهد بؤس, أو حطام ألم, لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها, أو عاشق هام في أرجائها.). هكذا يتجلى لنا الغموض في عبارات هذا النص.

ولكون القصة قد صيغت بلغة سرديّة ذات طابع فكري, لذلك افتقدت بالضرورة إلى الكثير من المحسنات البديعيّة, كالترادف , وتناقض المفردات, والطباق, والمقابلة, والتورية, و وكثرة الانزياحات اللغويّة, والصور البيانيّة كالتشبيه والاستعارة والكنايّة.. وغير ذلك.

ملامح الشخصيّة:

يظل الحدث فعلاً هلاميّاً ما لم تشكله الشخصيات بحسب حركتها وعلاقاتها ودرجة وعيها وبالتالي مساراتها التي يشكلها الكاتب. وشخصيّة القصة كانت مقنعة تماما كونها تعبر عن شخصيّة ذات توجهات فكريّة حقيقيّة في مواقفها وتفكيرها وحتى سلوكياتها .. بيد أن هذه الشخصية تظل فاقدة إلى حد كبير لإرادتها في صنع أحداثها, بسبب ضغط الواقع ومعاناته, وهذا ما لمسناه في توصيف القاص لحالته النفسيّة والفكريّة القلقة إلى حد كبير بسبب فقده مقومات الانتصار على هذا الواقع الملغم بالقهر والظلم والفقر والاستلاب.. ولكنه يصل في النهاية إلى التمسك  بـالصمت  لعل الزمن كفيل بتحقيق ما يطمح له القاص أن يتحقق في الواقع.

إن القصة في بنيتها تقوم على شخصيّة واحدة شكلت عالم القصة, ولكنها شخصيّة لها سماتها وخصائصها التي تجعل منها أنموذجاً أو مثالاً. وهذا ما جعل القاص يجعل منها شخصيّة ديناميكية متحركة وإيجابيّة ونامية. تركزت فيها وجهات نظر أو اهتمام القاص لتكون متوافقة مع منطق الواقع الاجتماعي من جهة, وأن تكون صادقة لمنطق العالم القصصي الذي تعيش داخله من جهة ثانية.

إن الحدث القصصي يفترض أن تكون هذه الشخصية المثقفة في حركتها متسقة مع العالم الذي تقدمه. فكل شخصية يجب أن تحافظ على نسق فكري ينسجم مع موقعها الاجتماعي وثقافتها وسلوكياتها لتؤدي دورها المتخيل بإتقان داخل العالم المتخيل الذي تصوره, وهكذا كانت شخصية بطل القصة (ماجد).

طريقة السرد أو الروي في القصة:

يلاحظ المتلقي أن القاص “الغرباوي), لا يقدم  شخصيته من وجهة نظر تسجيليّة, وإنما بطريقة وصفيّة سرديّة, حيث تتخلق الشخصيّة من خلال دورها في بناء الحدث وإدارة الحوار النفسي,  أو ما يعرف بالمنولوج الداخلي أو النجوى الذاتيّة. حيث تُحدث الشخصيّة نفسها متأملة ذاتها, فيزول عندئذ ما بين الوعي واللاوعي  من حجب وأستار, وينتفي البعد الزمني والمكاني بين الحاضر والماضي والمستقبل, وبذلك تكشف الشخصية عن نفسها لقارئها وتبين له خفاياها وأسرارها. ووسيلة المونولوج هذه لا يستخدمها الكاتب أو القاص إلا مع الشخصيات المؤثرة بقوة في بناء القصة.

إن أسلوب الكاتب (الغرباوي) الخاص في تصوير الحدث أو سرده, اعتمد على الرمز المشبع بالإشارة والإيحاء في دلالته الخصبة وأسلوبه في القص المركز, حيث عمل القاص على تقطيع الحدث وكسر إيقاعه وتداخله, بحيث بدت البنية السردية للقصة كلها كمجموعة من الفقرات الموجزة, غير المسترسلة, قدمها القاص “الغرباوي” لتكشف عن ايحاءات فكريّة وفنيّة قويّة.

ملاك القول:

لقد استطاع المفكر والأديب “ماجد الغرباوي” أن  يصنع من قصته (هاتف الفجر) عبر خياله وبصيرته, فضاءً  فلسفيّا (صوفيّاً) واخلاقيّاً وفكريّا وتفسيّاً, تتنفس فيه شخصيته من جهة, وشخصيّة المتلقي من جهة ثانيّة, وذلك من خلال ما باح به النص  من أسرار وخفايا لما يفكر به الحكيم أو المتصوف عبر علاقات التناسب والتفاعل والتناغم بين حضورهما في عالم القهر والظلم والتشيىء والاستلاب والغربة, وبين فضاء المعرفة وسهامها التي تدفهما دائما لتقصي الحقيقة. إنها علاقة غالباً ما تكون أشبه بعلاقة الكتلة بالفراغ, أو علاقة اللوحة بالمساحة الخلفيّة, أو الأنغام بفترات الصمت.

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

d.owaid333d@gmail.com

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قصة: (هاتف الفجر).

ماجد الغرباوي:

خرجتُ مسرعاً بعد لقاء قصير تداولت فيه مع صديق حديثاً ودياً, حتى إذا خطوت عدة خطوات تبارت سهام تقذفني, فلما أخطأتني كدت أفقد صوابي… تشبثت بأذيال الليل أستجير بظلمته, ما هي إلا برهة حتى استقر سهم في قلبي. فتبددت أحلامي, واستسلم دمي, فرحت أتلمس نبضي .. أتابعه كي يعلو يعانق السماء ثم ينحني مع الأرض في دورانها… تارة أرمقه, أتيه برشقاته, وأخرى أهادنه حين يتحدى غروري. فمسني طائف من الجن, لم أستعذ منه إلا به, رحت أتوسل إليه, لم يبال وتمادى يغور في إعماق قلبي.. قلبي الذي لم تخطفه السهام, يترنح الآن تحت وطأته, لم يكن طائشاً فطال سهادي. فكرت أن أنتزعه لحظة. أتفقد جرحي, وأمسح فوق روحي التي ترنحت, تستغيث بخواء عزيمتي, فلم تستجب إرادتي.

تحركت أناملي تتلمس موضع السهم, أين استقر؟… هل يتلاشى نبضي, أو يتناثر لحمي؟…هل يبوح بأسراري ومشاعري؟..هل سأفقد صوابي وهو يعبث في أخاديده؟.. قلبي المتيم بالحب كيف تتمزق أنسجته, ويمتلئ سحباً داكنة؟. رحت أطيل النظر, أستعيد حياتي, ما أن طفتُ فوق السحاب, أو اتخذت من البحر مركباً إلا وتدفقت, تتطاير شرراً, تلاحق أنفاسي, وترهق لهاثي, فأتوارى, أتدثر بدثار الخيبة, ثم أفيق, أستعيد أنفاسي. أيمم وجهي صوب ناصية القدر الأزلي, أرى الحياة مشهد بؤس, أو حطام ألم, لا يفقه لغتها سوى حكيم اعتزلها, أو عاشق هام في أرجائها.

ليست الحياة أنا وأنت, هي قلبي عندما يصغي لأهات المتعبين. ويواصل رحته من أجل المعذبين… الحياة عتمة حينما ينطفئ نور قلبي, قاحلة يغزوها المتسولون. كم أرهقنا أنفسنا بحثا عن معنى يشدنا إليها, كى ندرك أنها وهم مالم تفض قلوبنا حباً. كم أخاف على قلبي, أخاف على نبضه المتدفق حيوية.. كيف يخبو.. ماذا سيفعل به ذاك السهم الذي باغته.؟.

على غير هدى تحرشت به, فشعرت بألم لذيذ, يراقص قلبي, لتنساب نوابته المتعبة فوق أوردتي, تحمل أكداس أهات اللحظة الأخيرة, تلك اللحظة التي تحطم فوقها غروري, فما عاد جميلاً بما يكفي.

كيف أستجمع قواي لاسترد أنفاسي, واستعيد الأمل الذي تبخر مع حرارة السهم؟… كيف أحتفظ بقلبي الذي تسكن إليه نجوم السماء.. أخذني الذهول حيث يشتهي, ولم أعد أعرف سوى الصمت, مذهولا تعصف بي الأوهام, فسمعت هاتفاً يقول: (الصمت أبلغ من أي كلام). فهدأت روحي, غير أن عيني لم تفارقه وهو يغور بعيداً في أحشائي, حتى إذا اختفى يئست مستسلماً, لولا بارقة حين شعرت به يتلبسني, ينسج من الفجر طيفاً ثملاً, وينثر الروح ياسميناً, ندىً فوق ذاكرتي لا يشبه العشق, لا يدانيه الحب, عرفت كل ذلك عندما خانني قلبي وأفشى إليه بسري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسم المجموعة القصصية (يتهادى حلما).

المؤلف ماجد الغرباوي.

إصدار مؤسسة المثقف العربي – استراليا.

نشر وتوزيع – شركة العارف للمطبوعات.

بيروت – لبنان.