دفعت مصر ثمنا باهظا جراء التصريحات والتهديدات العنترية في 1967، وكان الثمن فادحا إذ خسرت سيناء بكاملها ودم آلاف من خيرة أبناء شعبها، وقتها، ولذلك أطلقنا عليها النكسة وليست الهزيمة.
ولأن الدرس كان قاسيا بحق ظلت القاهرة تتحفظ على أي مشاركة في أي أعمال عسكرية في إقليمنا “السعيد” اللهم إلا في حالات نادرة، رغم امتلاكها لأقوى جيوش المنطقة، بل وتحاول قدر المستطاع عدم التورط في أي صراع مشتعل ولو حتى بالتصريحات.
ما مناسبة هذا الكلام؟
المناسبة عزيزي القارئ، أن التاريخ يعيد نفسه حرفيا، ولكن هذه المرة باختلاف الظروف وميادين المعركة.
وربما لو قرأ القادة الإيرانيون التاريخ جيدا، لعلموا أنهم يقودن المنطقة برمتها وليست بلادهم فحسب، أو حتى الدول التي تفخر طهران بامتلاكها كلمة عليا فيها بالإضافة إلى غزة، إلى حرب مدمرة سوف تأتي على الأخضر واليابس، وستعاني شعوبهم والشعوب التي ملأت الدنيا صراخا بالتدخل في شؤونهم لحمايتهم حتى من أنفسهم، بسبب سياساتهم المدمرة.
لقد دأب النظام الإيراني على إطلاق التهديدات العنترية، حتى كنت أتخيل أنها صادرة عن أحمد سعيد، المذيع المصري الأشهر خلال الحقبة الناصرية، صاحب إعلان انتصار مصر في 1967، بعد أن أغلقت مصر مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية وسحبت قوات الأمم المتحدة من سيناء، فجاء درس 1967، وهو بالضبط ما يفعله النظام الإيراني منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
فأطلقت طهران التهديدات يمينا ويسارا، بل وأطلقت يد “الحوثي” لاستهداف الملاحة الإسرائيلية بل والغربية، عند باب المندب، جنوب البحر الأحمر.
وطبعا بصمة طهران الواضحة في عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول، لا يمكن أن تخطئها العين، عندما قررت طهران قلب الطاولة على الجميع في المنطقة، بعملية حماس، ولم لا؟!، فالذي يدفع الثمن الشعب الفلسطيني البريء، ظنا أنها ستحارب إسرائيل خلف مليشياتها المنتشرة في المنطقة بعيدا عن الأراضي الإيرانية.
المشكلة الأكبر، أن الإسرائيليين تعاملوا مع التهديدات والتحركات الإيرانية بجدية بالغة، كما فعلوا خلال وقت سابق في 1967 عندما أعلن عبد الناصر، إغلاق مضيق تيران، وحشد الجيش المصري في سيناء، فمرة يقصفون مبنى دبلوماسيا إيرانيا في دمشق ويقتلوا جنرالا إيرانيا بارزا بالحرس الثوري، ومرة تقصف طائراتهم المليشيات الإيرانية (الحوثيين) في الحديدة، أما المرة الأخيرة باغتيال هنية في طهران، فجاءت لتؤكد أن إيران لا تمتلك ردعاً ولا حتى حصانة من الاختراق.
والحقيقة أن غياب الرد الإيراني الجاد والردع الإيراني كل مرة، يأتي ليمنح تل أبيب مزيدا من الضوء الأخضر لاستمرار بطشها وتجبرها في الإقليم.
لقد أطلقت إيران التهديدات بالحرب بينما هي في الحقيقة “تمزح” لقد حاول بعض القادة الإيرانيين العقلاء التأكيد مرارا وتكرارا على عدم رغبة الأخيرة في إشعال حرب إقليمية، لكنهم تناسوا أن عدم إشعال الحرب لا يأتي بالنوايا الحسنة، إنما يجب أن يكون مرهونا بأفعال تدعمه وتبرهن جديته.
رحم الله الرئيس السادات، والذي لم يكن من هواة التصريحات الحنجورية والعنترية، بل وتعمد أن يظن الجميع به بأنه خليفة عبد الناصر فعلا، ليتعامل معه العالم والإسرائيليون على هذا النحو، بينما هو كان يعد العدة لتلقين إسرائيل الدرس العسكري والسياسي الأهم.
فلم يكن يهدد كثيرا، لكنه عندما كان يهدد كان يقصد وكان يفعل، ولا أحد ينسى تصريحه الشهير “العين بالعين والعمق بالعمق والنابالم بالنابالم”، لتجبر إسرائيل بعدها عن التوقف عن استهداف العمق المصري.
بينما الردود الإيرانية، تأتي كل مرة دون المستوى، لتطلق عنان الآلة العسكرية الإسرائيلية لمزيد من البطش والتدمير، هل تتذكرون الرد المسرحي بقصف المبنى الدبلوماسي الإيراني في دمشق؟! عملية الدرون وصواريخ الألعاب النارية التي أطلقتها طهران؟!
هل تتذكرون القصف الإيراني المُصمم على عدم إيقاع أي ضحايا على القواعد الأمريكية في شمال العراق عقب اغتيال الجنرال قاسم سليماني؟! فكيف تتوقعون الرد الإيراني على مقتل هنية في طهران؟.
لقد عمدت إيران إلى تغيير قواعد اللعبة، وتعطيل قطار السلام في المنطقة، العام الماضي، قبيل عام واحد من انتخابات الرئاسة الأمريكية، للتأكيد على أنها لا تزال لها الكلمة العليا.
لكنها لم تكن لتريد الحرب حقا، لاسيما أن الحرب طالت الأراضي الإيرانية نفسها، ولم تكن لتريد السلام أيضا، هي فقط تريد أن تناكف إسرائيل والاعتراف بها كدولة مهيمنة في الإقليم، بثمن بخس من أبنائها، وفادح من شعوب المنطقة.
لقد تناسى المتطرفون سواء هنا أو هناك، أن دروس التاريخ ليست بعيدة، وهي تخبرنا بأن إسرائيل لا تٌجبر على السلام إلا من خلال الخوف من الحرب مع طرف قادر بحق ويمتلك قوة ردع حقيقية، كما في الحالة المصرية.
أو لتحقيق مصلحة عظيمة ومنافع متبادلة قادرة على التأثير على مسار المستقبل مثل الحالة الإماراتية، والحالة السعودية التي كانت أقرب من أي وقت مضى بتفاهمات تاريخية قبل عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول.
أما إيران، فلا ردعا حققت، ولا سلاما صنعت، بل وأصبحت أراضيها مرتعا لأنشطة الموساد من اغتيال لقادة أجانب على أراضيها، أو لاغتيالات في صفوف علمائها النوويين.
أما في النهاية فلا يسعنا سوى القول «رحم الله هنية وآلاف الضحايا الفلسطينيين الأبرياء الذين لا يزال مصيرهم بين يدي المتطرفين سواء في تل أبيب أو طهران».