ما تم توقيعه في دمشق ليس دستورا، وليس جديدا… ليس لحظة تأسيسية، وليس خطوة نحو المستقبل!
هذا الإعلان هو إعلان عن شيء واحد فقط: أن السلطة لم تتغير، ولن تتغير. الرئيس أحمد الشرع يوقع على دستور يمنحه كل شيء تقريبا (وفقا للباب الثالث مواد 24 الى 42): قيادة الجيش، إدارة الدولة، تحديد المصير، التعيين، العفو، الحكم. الدستور الجديد لا يعيد تشكيل العلاقة بين السلطة والشعب، هو يعيد تكريس السلطة نفسها بينما الشعب يشاهد ويحتفل.
سيخبرونك انك تساهم في التغيير، لا تصدقهم انت تشهد تغيير الوجوه فقط!
وفي مكان آخر، في الساحل، بعيد عن المكاتب الفاخرة واللجان المختصة، هناك أمهات لم يعدن بحاجة الى المرحلة الانتقالية. هناك من لا يسأل عن المادة 48، لأنهم مشغولون بعد أسماء من فقدوهم. هناك من لا يهتم بإلغاء منصب رئيس الوزراء، لأنه يحفر الأرض بأظافره بحثا عن اطفاله. القرى خالية والبيوت مثل توابيت مفتوحة، الهواء ثقيل والفراغ يبتلع كل شيء.
عندما تقرأ هذا الإعلان الدستوري ستدرك أنه إعلان هزيمة أخرى … مجرد ورقة أخرى تضاف إلى كومة الهزائم السابقة، يلقى بها في احد الأدراج، وينتهي الأمر. يقر الدستور الجديد الفقه كمصدر رئيسي حصري للتشريع، أي الفقه سيكون الإطار المرجعي الوحيد في سن القوانين وتفسيرها… لا رئيس للوزراء، لا فصل بين السلطات، لا آليات رقابة حقيقية…
سيقولون لك انه دستور جديد، لكنك تعرف انها ورقة تخبرك بمن يملك زمام القرار في هذا البلد.
المسودة تتألف من 53 مادة. لكن هناك مواد مفقودة. ثقوب سوداء في نص يزعم أنه يؤسس لدولة جديدة… هناك قائمة بالمحظورات…قائمة مخفية، وهذا هو الأكثر رعبا.
الدساتير يا صديقي هي عقود اجتماعية بين الشعب وبين الدولة. والدساتير لا تشرع في قاعات حربية. الدساتير هي النفس الأول لاي مجتمع يسعى لأن يكون مجتمعا، لا قطيعا.. الدساتير تأتي من صخب الشوارع ومن صوت الشعوب.
الدستور ينص على الحرية، لكنه مشروط بـ”التوازن مع الأمن المجتمعي”. ينص على حق المرأة، اهو حقها في التبعية؟ في الطاعة؟… ينص عن استقلال القضاء، لكنه يترك عزل الرئيس بيد مؤسسة هي وجه آخر للسلطة ذاتها. هل تدرك ان أي تشابك بين السلطتين التنفيذية والقضائية ينفي استقلال القضاء و يجعل منه أداة تابعة للحاكم؟
سبق وقلت لكم، وسأكررها: هذا ليس دستورا، إنه ورقة مليئة بالكلمات المتعبة، موجهة لمن يريد ان يصدق ان هناك بداية جديدة، رغم انه يعرف ان لا شيء سيتغير. تماما كما في روايات دوستويفسكي، السلطة تكتب القصة، وتمنح الأمل الزائف لمن يرفض مواجهة الواقع.
الرئيس أحمد الشرع، بالكاد اطلع عليه، ابتسم كما يفعل عادة… لم يكن مضطرا للقراءة، فالقرارات الحاسمة تحتاج فقط إلى توقيع… وبهذا، صار لدينا دستور! او شيء يشبهه… في الوقت ذاته، لجنة التحقيق أعلنت أنها ستبحث عن الحقيقة، لكن الحقيقة واضحة كالشمس: الفصائل لا تزال تتحرك بحرية، تسرق، تحرق، تقتل، ولا أحد يوقفها.
وسط هذا السيل من الأحداث المحبطة، لم يعد هناك متسع للتفكير… متى بدأ كل هذا بالحدوث دون أن ننتبه؟
في الساحل، الدم لم يجف بعد. لم يأخذ الموت وقته الكافي ليصبح ذكرى، لا تزال العائلات، تحصي قتلاها، تبحث عن الأسماء المفقودة. لكن لا تقلقوا، اللجنة تتابع التحقيق، كما تفعل اللجان دائما. في أماكن أخرى الجميع يتحدث عن الوحدة الوطنية ومحاسبة المجرمين. فقط، هناك مشكلة صغيرة: المجرمون مشغولون بتوقيع الاتفاقيات والاعلان عن الدستور الجديد…
في احد مكاتب دمشق يجلس رجال ببزاتهم الرسمية ويدور بينهم هذا الحديث:
– ثلاثون يوما وستكون النتيجة جاهزة. هذا ما صرح به احد اعضاء لجنة تقصي الحقائق.
– رائع! آمل أن يكون المحققون على أعلى درجات من الكفاءة إذا.
– بالطبع، لا تقلق. إنهم شخصيات محترمة، لها تاريخها، ومواقفها الطائفية الموثوقة.
– ممتاز! إذا، ستبحث اللجنة عن حقيقة تناسب المرحلة الجديدة. كم هو جميل هذا العالم!
يضحك الجميع وينتهي الاجتماع.
والآن، يأتي الجزء الأهم في صياغة الرواية. الإعلام يطلق روايته، يحدد أي قصة ستصبح الحقيقة وفي النهاية، يظهر التفسير النهائي، بسيطا ومريحا: “فلول النظام”. هذه كلمة تحمل كل ما يحتاجونه، الكلمة التي تغلق الملفات…وتختصر القصة كلها بكلمة واحدة: “الفلول”. نعم، ولا؟
البلاد تتغير. هكذا يقولون.. السلطة الجديدة تجتمع مع الفصائل، الفصائل تلتحق بالجيش، الجيش يضم الميليشيات، والنتيجة؟
في الجنوب ايضا البلاد تتغير… السويداء دخلت على الخط. اتفاق بين الإدارة الجديدة والزعامات هنا، بعضهم راضي، بعضهم غاضب، بعضهم يرى أن الفيدرالية هي الحل، وبعضهم يراها كارثة.
المهم أن العلم السوري تم رفعه… هذا هو الإنجاز! علم بشع، نفس اللون الأخضر وثلاث نجوم حمراء، ممهورة بنص الدستور الجديد. يتجاور العلم الى جانب راية الدروز فوق مبنى محافظة السويداء. يا ترى ايهما أكثر ثباتا؟
وفي الشمال، “قسد” توقع اتفاق الانضمام إلى الجيش السوري. توقيع بيد، ومعارك مستمرة باليد الأخرى.
الاتفاقية بين أحمد الشرع ومظلوم عبدي أصبحت رسمية، وتقتضي تسعة أشهر لتنفيذها، كأنها طفل سيولد… الحمل السياسي، يسمونه! لكن الولادة ليست مضمونة وقد تكون متعسرة مادام الجسد مريض… لا اعتقد ان أحدا يريد المخاض، لأن الجميع يعرف أن الطفل المنتظر، إن ولد، سيخرج مشوها.
الجيش لا يزال يقاتل “قسد”. قوات يفترض أنها حلت نفسها، تقاتل قوات يفترض أنها أصبحت جزء من النظام. فصيل منحل يقاتل فصيل منضم، في حرب من المفترض أنها انتهت (وفقا للاتفاقيات). تركيا لا تريد التصعيد. لكنها لا تقبل تسوية لإبقاء “قسد” في المعادلة. في الوقت نفسه، تدفع بقواتها (بالوكالة) لخوض معارك جديدة ضد “قسد”.
أيضا، هذا الاتفاق ليس اتفاقا… هو اتفاق ضبابي، مثل كل شيء آخر. ليس حكم مركزي، ليس فدرالية، ليس نظاما ولا خروجا منه… دمشق تريد السياسة والاقتصاد… السيطرة على الورق على الأقل ! لكنها تعرف، كما يعرف الجميع، أن هناك مناطق خرجت من قبضتها ولن تعود.
الاحتفالات بدأت والرصاص يطلق في الهواء، يسقط بعض الجرحى، لا بأس، يحدث دائما. الفرح هنا لا يأتي مجانا، دائما هناك فاتورة دماء. في هذا المكان، حتى الفرح يترك وراءه ضحايا… في الساحل، لا أحد يبتهج، لا أحد يكترث بكل تلك الكلمات المصاغة في مكاتب نظيفة. هناك، الناس لديهم أولويات أخرى، مثل محاولة النجاة.
لكن هل انتهت الحرب؟ لا أحد يعلم. هل بدأت مرحلة جديدة؟ ربما. الشيء الوحيد المؤكد هو أن الدم لا يزال ساخنا لم يتخثر بعد، وأن الذين أطلقوا النار بالأمس يوقعون اليوم على أوراق، يوزعون الابتسامات، لكن لا شيء انتهى حقا، لا شيء ينتهي هنا !
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس