دعوة لتحرّر المرأة من الاستبداد السياسي: بين الوعي والحق والكرامة:

بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

لم يكن اضطهاد المرأة في العالم العربي يوماً مجرّد عرضٍ اجتماعيّ عابر، بل هو نتاجٌ لتراكمٍ تاريخيّ مركّب تتداخل فيه السياسة بالدين، والعُرف بالأيديولوجيا، والسلطة بالأخلاق المزوّرة. فالمرأة العربية، منذ قرون، تُعاقَب لأنها تملك القدرة على التمرّد، وتُدان لأنها ترفض أن تُختزَل في جسدٍ أو دورٍ أو صمتٍ. ومع أن شعارات “التحرّر” و”المساواة” تتردّد في فضاءاتنا الإعلامية والسياسية، إلا أن بنية السلطة في جوهرها لا تزال قائمة على منظومة استعبادٍ مقنّعة، تستمدّ قوتها من الخضوع الجمعي ومن هندسة الطاعة التي وصفها ميشيل فوكو بأنها “أدق أشكال السيطرة، لأنها تُمارَس من الداخل لا من الخارج”.
فالمرأة ليست فقط ضحية سلطة الأب أو الزوج أو الجماعة، بل ضحية نظامٍ سياسيّ يُعيد إنتاج كل هذه السلطات في صورة دولةٍ راعيةٍ للقهر. وحين تُخنَق المرأة باسم الدين، أو التقاليد، أو “الغيرة الوطنية”، فإنها لا تُخنق بوصفها فردًا، بل بوصفها وعيًا بديلًا يُهدّد مركز السلطة. وهنا يلتقي تحليل فوكو للسلطة كـ”شبكةٍ متداخلة تُنتج الأفراد الذين تسيطر عليهم”، مع الواقع العربي الذي يجعل من جسد المرأة ميدانًا للرقابة، ومن حريتها مقياسًا لقوة النظام الأبويّ والسياسيّ معًا.
إن الدعوة إلى تحرّر المرأة من الأنظمة السياسية الاستبدادية ليست دعوةً اجتماعية فحسب، بل هي مشروع تحرّرٍ للإنسان ذاته، لأن كل استبدادٍ سياسيّ يقوم في جوهره على استعباد الجسد والوعي معًا. وقد بيّنت حنّة أرندت أن فقدان الحرية لا يبدأ من فقدان الحقوق السياسية، بل من لحظة إذعان الإنسان لسلطةٍ ترى فيه “كائنًا يُدار لا كائنًا يُفكّر”. وفي هذا الإطار، فإن المرأة العربية –المحاصرة بالتحريمات والتجريمات– تعيش في ظلّ سلطةٍ لا تُمارس عليها القهر فقط، بل تُمارس عليها أيضًا الإقصاء من الفعل، وكأنّ وجودها الكامل خطرٌ على النظام الاجتماعي والسياسي معًا.
لقد لخّصت سيمون دي بوفوار مأساة المرأة في عبارة شهيرة: “لا تولد المرأة امرأة، بل تُصبح كذلك”. وهذه الصيرورة التي تحدّثت عنها ليست تطورًا طبيعيًا، بل مسارًا شاقًا من مقاومة التشكيلات الأبوية والسياسية التي تحوّل المرأة إلى “آخر” وجوديّ، تُقاس كرامتها بمدى طاعتها. أما في العالم العربي، فقد ازدوج هذا “الآخر” بين القمع باسم الشرف، والقمع باسم الدولة، فكأنّ المرأة تعيش بين استبدادين متحالفين: سلطة الذكر وسلطة النظام.
ولعلّ ما يزيد من عمق المأساة هو أن القوانين، بدل أن تكون أداة عدالة، صارت في كثيرٍ من البلدان العربية أداة تمييزٍ مؤسسيّ. فالدساتير تتحدّث عن المساواة، لكن القوانين تُفرّق، والأنظمة تُمعن في تسليع المرأة تحت عناوين الأخلاق، كما أشار إلى ذلك المفكر المغربي عبد الله العروي حين قال إن “التحديث في المجتمعات العربية ظلّ شكليًّا، لأنه لم يمسّ البنى الذهنية العميقة التي ترفض الحرية باسم المحافظة”. فالتحرّر القانوني لا يمكن أن يتحقق دون تحوّل ثقافيّ جذريّ يعيد تعريف علاقة السلطة بالإنسان، والرجل بالمرأة، والفكر بالواقع.
من منظورٍ فلسفيّ، لا تتحقق الحرية بالمنح، بل بالوعي؛ لأن الحرية التي تُمنح قابلةٌ للاسترداد في أول لحظة خوف. ولذلك فإن تحرّر المرأة يبدأ من إعادة تعريف ذاتها خارج الأطر التي رسمها النظام الأبويّ، أي من تجاوز صورة “المرأة المطيعة” إلى “الذات الفاعلة”، التي تُدرك أنّ وجودها لا يحتاج إلى ترخيصٍ من أحد. وهنا يمكن استحضار مشروع محمد عابد الجابري في نقد العقل العربي، إذ رأى أن الأزمة ليست في النصوص، بل في آليات قراءتها، وأن تحرّر المرأة مشروطٌ بتحرّر العقل الجمعي من التفسير السلطويّ للدين والهوية.
أما من الناحية القانونية، فإن أغلب التشريعات العربية –رغم توقيعها على اتفاقيات دولية كـ”اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (CEDAW)”– لا تزال تمارس التمييز بحجّة الخصوصية الثقافية. وهذا التذرّع، كما يرى الفيلسوف الأمريكي جون رولز في نظريته عن العدالة، هو تناقضٌ أخلاقيّ لأن العدالة لا تُجزّأ ولا تُؤجَّل. فالمجتمع الذي يقبل ظلم فئةٍ بحجّة العُرف، إنما يضعف أسس العدالة ذاتها. لذلك فإن تحرّر المرأة ليس قضية حقوقية جزئية، بل هو معيار لمدى نضج الدولة المدنية وعدالتها.
في الجانب الاجتماعي، لا يمكن تجاهل أن ثقافة التحرش، كما ذكرت الكاتبة، هي نتاج تشوّهٍ في علاقة الرجل بذاته قبل أن تكون عدوانًا على المرأة. فالمتحرّش لا يسعى إلى الإشباع، بل إلى السيطرة؛ لا إلى التواصل، بل إلى الهيمنة. وهذا ما وصفه إريك فروم بأنه “تعبير مرضيّ عن عجز الإنسان عن الحب”، لأن الحبّ الحقيقي فعل حريةٍ متبادلة، بينما التحرش فعل قهرٍ وامتهان. ومن هنا يمكن القول إن مقاومة التحرش ليست معركة نسوية فقط، بل معركة أخلاقية شاملة لإعادة تعريف الذكورة بمعناها الإنسانيّ لا السلطويّ.
وقد كانت نوال السعداوي من أوائل من فضحوا العلاقة بين السلطة الجنسية والسلطة السياسية، إذ رأت أن “الاستبداد في الوطن يبدأ من غرفة النوم”، وأن السيطرة على جسد المرأة هي الوجه الحميم للاستبداد العام. فالأنظمة التي تُخضع النساء، هي ذاتها التي تُخضع الشعوب، لأن الاستبداد بنية واحدة تتخذ أشكالًا مختلفة. ومن هنا فإن تحرّر المرأة شرطٌ لتحرّر الرجل نفسه، لأن كليهما رهينة بنيةٍ سلطويةٍ لا ترى في الإنسان إلا وسيلة طاعة.
أما على مستوى الوعي الجمعي، فإن كسر الصمت النسويّ لا يعني فقط الدفاع عن الحقوق، بل يعني تفكيك لغة الهيمنة ذاتها. فاللغة التي تُنتج دونية المرأة –كما يقول بيير بورديو في “الهيمنة الذكورية”– ليست مجرد وسيلة تواصل، بل آلية لإعادة إنتاج السلطة الرمزية في المجتمع. ومن ثمّ، فإن مقاومة الهيمنة تبدأ من إعادة بناء الخطاب الثقافي والإعلامي الذي يشرعن العنف الرمزي ضد المرأة تحت ستار الأخلاق أو الدين أو الحياء.
ختاماً، يمكن القول إن تحرّر المرأة من الأنظمة السياسية الاستبدادية ليس شأنًا نسويًا محضًا، بل هو فعل نهضويّ شامل يُعيد للإنسان العربيّ وعيه بذاته وقدرته على الفعل. فكما قال مالك بن نبي: “إن تحرّر الإنسان يبدأ حين يدرك أنه لم يُخلق ليُقاد، بل ليختار.”
وعندما تدرك المرأة أن صمتها لا يحميها بل يبرّر قيدها، وعندما يدرك الرجل أن كرامته لا تُقاس بسلطته على الآخر بل بقدرته على احترامه، حينها فقط يمكن أن نقترب من معنى العدالة التي تحدّث عنها رولز، ومن مفهوم الحرية كما تصوّرتها أرندت: حريةُ أن نكون بشرًا قبل أن نكون ذكورًا أو إناثًا.
إن قضية المرأة ليست فصلًا من كتاب الحرية، بل هي الكتاب كله. وحين تتحرّر المرأة، لا يتحرّر نصف المجتمع، بل يتحرّر الوعي الإنسانيّ برمّته من طغيانٍ مزدوج: طغيان السلطة، وطغيان الذكر.
وما لم تتحوّل المرأة من موضوعٍ للوصاية إلى ذاتٍ للوعي، سيبقى الوطن العربيّ حبيس تاريخه، يكرّر ظلمه بأسماء جديدة، ويستعبد أجياله بذرائع الشرف والفضيلة، وهو لا يدرك أن الكرامة لا تُستعار، بل تُصان بالحرية وحدها.