يمثل إصدار الرئيس محمود عباس مرسوماً لتشكيل لجنة تُعِدّ مرسوماً مؤقتاً للانتقال من مرحلة “السلطة الوطنية الفلسطينية” إلى “الدولة الفلسطينية” اكثر من مجرد خطوة إدارية، بل هو فعل سياسي ودستوري يعبّر عن محاولة إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة الحرجة.
تاريخياً، فقد تأسست السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994 بموجب اتفاقيات أوسلو، باعتبارها كياناً انتقالياً مدته خمس سنوات فقط، وظيفته إدارة شؤون الفلسطينيين المدنية والأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة بحدود ما تسمح به إسرائيل، أي أنها كانت ولا زالت “سلطة تحت الاحتلال” وليست دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، وبعد مرور أكثر من ربع قرن، بقيت السلطة قائمة من دون أن تتحول إلى دولة كما كان مأمولاً، وبقيت مقيّدة بالاتفاقيات وبالاحتلال.
في المقابل، فإن إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي أصدره المجلس الوطني عام 1988 في الجزائر، وضع الأساس القانوني والسياسي للدولة الفلسطينية، وقد حظي آنذاك باعتراف أكثر من مئة دولة، لكنه ظل إعلاناً رمزياً لم يُترجم إلى مؤسسات حاكمة.
وبالعودة الى مرسوم الرئيس بتشكيل لجنة لصياغة “دستور مؤقت”- دون الدخول في جدل التشكيل وعضويتها وتمثيلها السياسي- فان ذلك يعني أن هناك إرادة سياسية لإعادة صياغة الإطار القانوني الذي يحكم الفلسطينيين بما يدلل على وضع حد لوضع السلطة ككيان مؤقت، ونقل الصلاحيات والوظائف إلى “مؤسسات دولة فلسطين”، وإعادة هيكلة الوزارات والأجهزة لتعمل تحت مسمى الدولة، ورسم خطوط أولية لدستور أو “قانون أساسي” معدل ينظم شؤون الدولة الوليدة، وهذا ما قد يكون أشبه بجسر دستوري ينقل الفلسطينيين من مرحلة سلطة وُلدت من رحم أوسلو إلى مرحلة دولة يُراد لها أن تكون واقعاً سياسياً وقانونياً.
وبالنظر سياسياً الى هذه الخطوة نقرأ فيها أن القيادة الفلسطينية تسعى إلى كسر القيد التاريخي لاتفاق أوسلو، والتعامل مع الواقع باعتبار الفلسطينيين أصحاب دولة، لا مجرد سلطة حكم ذاتي، وتوجيه رسالة للمجتمع الدولي بأن مشروع الدولة لم يعد قابلاً للتأجيل، وأن الوقت قد حان للاعتراف الكامل بها، كما من شأنه تعزيز شرعية المطالبة الفلسطينية بالانضمام إلى المنظمات الدولية كدولة كاملة العضوية، خصوصاً الأمم المتحدة، وكذلك الى اعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على قاعدة أن “المرجعية هي الدولة”، ما قد يُضعف الحجج الإسرائيلية التي تعتبر أن الفلسطينيين مجرد “سلطة إدارية”.
غير أن هذا التحرك السياسي- القانوني يواجه تحديات كبرى، تتمثل في ابرزها في الاحتلال الإسرائيلي الذي يسيطر على الأرض والموارد والمعابر، ما يجعل أي إعلان دولة منقوص السيادة، وفي الانقسام الفلسطيني الداخلي، إذ إن الانتقال إلى الدولة يتطلب وحدة المؤسسات بين الضفة وغزة، وهو ما لم يتحقق منذ 2007، وفي الموقف الدولي، إذ أن الدول الكبرى قد ترى في هذه الخطوة تصعيداً أحادياً يعرقل ما يسمى “عملية السلام”، رغم أن هذه العملية متوقفة فعلياً منذ سنوات، وداخليا في الشرعية الداخلية، حيث سيتساءل الفلسطينيون: هل المرسوم سيغيّر واقع حياتهم تحت الاحتلال، أم سيكون مجرد خطوة رمزية؟
وإذا ما نظرنا بتفاؤل وبعمق، نجد أن فكرة الانتقال من “السلطة” إلى “الدولة” ليست مجرد إعادة تسمية، بل هي محاولة لإعادة إطلاق المشروع الوطني الفلسطيني برمته، فالسلطة الوطنية هي نتاج تسوية سياسية محدودة، بينما الدولة هي تجسيد لحق تقرير المصير والسيادة الوطنية، أي أن الدستور المؤقت ليس غاية في ذاته، بل وسيلة لإعلان أن الشعب الفلسطيني لم يعد مستعداً للبقاء رهينة “الوضع الانتقالي”، وأنه يتقدم خطوة نحو المشروع التاريخي: الدولة المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
واخيرا، فان إن إصدار الرئيس لمرسوم تشكيل لجنة لصياغة الدستور المؤقت للانتقال من السلطة إلى الدولة، والتي كما قلنا يمثل إعلاناً سياسيا-قانونيا ويعبر عن أن الفلسطينيين قد ضاقوا ذرعاً بالبقاء في قفص “السلطة الانتقالية”، وأنهم يسعون إلى تأطير وجودهم القانوني والدستوري على قاعدة الدولة، لكنه في الوقت نفسه يفتح الباب على جدل واسع: هل ستتحول هذه الخطوة إلى واقع عملي يغير حياة الناس، أم ستبقى خطوة رمزية لتعزيز الخطاب السياسي الفلسطيني أمام العالم؟
•” د. حسن سليم محامي واستاذ جامعي”
نقلا عن وكالة وطن الفلسطينية