دلوها على قبر شقيقها لتسامح

نبيل الملحم

لسنا وحدنا من أسقط القيم لحساب المصالح، وهذه بعض ملامح من التاريخ القريب، وهو تاريخ طالما كشفته الوثائق والوثائقيات، فبعد سقوط الرايخ الثالث في العام 1945، بدا أن العالم يقف على عتبة جديدة من الأخلاق الدولية، خاصة مع محاكمات نورمبرغ التي أرست مبدأ أن لا أحد فوق المساءلة، جنرالاً كان أو حاكمًا، لكن هذه البداية الأخلاقية سرعان ما شُوّهت حين بدأ المنتصرون في الحرب يرسمون خريطة عالم جديد لا تحكمه القيم، بل المصالح.

أنذاك أفرزت مرحلة ما بعد الحرب تحالفات، تواطأ فيها الحلفاء مع شخصيات نازية تورطت في جرائم ضد الإنسانية، مقابل ما يمكن أن تقدمه من “خدمات”.

هكذا تحوّلت الجرائم إلى أوراق تفاوض، وأُعيد تدوير القتلة في وظائف جديدة تحت لافتات علمية أو استخباراتية أو سياسية.

وفق المعلومات والوثائق المعلن عنها فلعل واحد من أمثلتها الأشهر هو فيرنر فون براون، مهندس الصواريخ النازي الذي طوّر معسكرات الاعتقالات وأدوات الإبادة، وبدل أن يُحاكم، استُقبل فون براون في الولايات المتحدة كبطل علمي، وأسهم لاحقًا في برنامج أبولو الذي أوصل الإنسان إلى القمر.

ـ لقد مُسحت ذاكرته النازية ببساطة لأن واشنطن احتاجت عبقريته أكثر مما احتاجت إلى العدالة.

كذلك هو حال راينهارد غيهلن، الذي قاد الاستخبارات العسكرية على الجبهة الشرقية خلال الحرب، وساهم في تعقب وقتل آلاف الشيوعيين واليهود.. بعد الحرب، أصبح حليفًا مركزيًا للولايات المتحدة في صراعها ضد الاتحاد السوفيتي، وتحوّل إلى مؤسس جهاز المخابرات الألمانية الغربية (آنذاك).

وفي ظل هذا الانزلاق، لم يعد القتل تحت عباءة النازية نهاية المسار، بل قد يكون بداية جديدة، فهذا من يسمّى “جزار ليون” واسمه الحقيقي “كلاوس باربي”، وكان قد عُرِف بتعذيب المقاومين الفرنسيين، وجد نفسه لاحقًا موظفًا لدى الاستخبارات الأمريكية قبل أن يُهرّب إلى أمريكا اللاتينية، حيث عاش لعقود بعيدًا عن يد العدالة، ولم يُحاكم إلا في الثمانينات بعد أن استُنفد استخدامه، وسقطت الحسابات القديمة.

هذه الأمثلة ليست حالات فردية، بل تكشف سياسة:

ـ إذا كنتَ نازيًا نافذًا، فبوسعك أن تفاوض على ماضيك؛ أما إذا كنتَ نازيًا صغيرًا، فربما تُحاكم لا لأنك أجرمت، بل لأنك لم تكن ذا فائدة بعد الحرب. هكذا تأسست مفارقة أخلاقية مفجعة:

ـ العدالة لم تكن عمياء، بل كانت مبصرة جداً، تميز بين من يُفيد ومن يُهمل. وكأن القتل يصبح أقل فظاعة حين يُرتكب باسم العلم أو الأمن أو “التحالف الأكبر”.

لقد فشلت العدالة الدولية، في بعض مفاصلها الحرجة، لأن الانتصار لم يكن كافيًا لبناء نظام أخلاقي، بل كان مدخلاً لنظام واقعي لا يهاب إعادة تدوير المجرمين ما داموا مفيدين.

اليوم، بينما تواجه البشرية صعود تيارات استبدادية جديدة، ربما من الضروري أن نسأل:

ـ ما الذي نغفره حين نصمت عن محاكمة الجناة؟ وما الذي نُفقده حين تصبح الجرائم قابلة للتفاوض؟
العدالة المؤجلة ليست عدالة، بل مجرد صفقة أخرى في سوق المصالح، ويبقى السؤال:
ـ من يحق له إعطاء المجرمين الامان سوى اهل الضحايا؟
ـ من يحق له منح الغفران؟ ومن يملك أن يصفح نيابة عن المذبوحين؟

في القيم الأخلاقية والإنسانية، لا يملك أحد – لا دولة ولا محكمة ولا جهاز استخبارات – أن يمنح المجرم أمانًا أو غفرانًا، إلا أهل الضحايا، من ذاقوا الألم، من حملوا الجثث، ومن عاشوا الفقد، لهم الحق في أن يقولوا: ـ”نسامح” أو “لن نغفر”.

أما حين تُمنح الحصانة للمجرمين من قبل المنتصرين ، فهي ليست غفرانًا، بل تواطؤ مع الجريمة، حتى وإن ارتُكبت باسم الواقعية السياسية أو “الأمن القومي” أو أيّ كانت تسميتها”.

منح الغفران دون الرجوع إلى الضحايا يعيد ارتكاب الجريمة بصورة أخرى، أكثر خبثًا:
ـ هذه المرة تحت عباءة القانون، وثمة قائل:
ـ المسامحة ليست نسيانًا، بل تذكّرٌ دون رغبة في الانتقام… لكنها تظل دومًا فعلًا شخصيًا لا يمكن فرضه من فوق”.

فهل كان لواشنطن أو باريس أو موسكو، الحق في منح عفو غير مستحق، فقط لأن مرتكب الجريمة صار مفيدًا؟
قطعًا لا. لقد اغتالوا العدالة مرتين:

ـ مرة حين وقعت الجرائم، ومرة حين حمت السياسة مرتكبيها.
وها هي سوريا تمشي على خطوات سبق لسواها أن مشى عليها، وكل المطلوب اليوم، هو الإصغاء لصرخة تلك السيّدة التي طالبت القاتل فادي صقر ومنوعاته، أن يدلها على المقبرة الجماعية التي دفن بها شقيقها.
ـ دلونا على قبره لـ :
ـ نسامح.