من خلال المواقف والتصريحات الصادرة عن رئيس الإدارة الأمريكية دونالد ترامب، يتضح وجود توجّه أمريكي يسعى عمليًا إلى نزع قطاع غزة من الخارطة الجغرافية لدولة فلسطين، عبر حزمة من الإجراءات والمشاريع السياسية والأمنية المقترحة.
فقد تحدّث ترامب عن إدخال قوات متعددة الجنسيات إلى قطاع غزة، تحت إشراف ما يُسمّى بـ«مجلس السلام» برئاسته، على أن يبلغ عدد هذه القوات نحو 15 ألف عنصر أمني. وفي هذا السياق، لم يتم التطرّق إطلاقًا إلى دور الشرطة الفلسطينية التي جرى تدريبها في كلٍّ من مصر والأردن، وهي جاهزة لتحمّل مسؤولياتها الأمنية، ما يدلّ بوضوح على محاولة تهميش السلطة الفلسطينية وإقصائها عن أي دور أساسي في إدارة القطاع.
في المقابل، وخلال المرحلة الأولى من الاتفاق، أشار ترامب إلى انتشار شرطة تابعة لحركة حماس في المناطق التي ينسحب منها جيش الاحتلال الإسرائيلي. وقد سبق ذلك قيام سلطات الاحتلال بتشكيل مليشيات فلسطينية من العملاء والجواسيس داخل قطاع غزة، في محاولة لخلق واقع أمني مشوَّه يخدم أهداف الاحتلال.
الهدف الأساسي من هذه السياسات هو تكريس رواية أن الصراع الفلسطيني الداخلي يمنع الفلسطينيين من تولّي مسؤولية أمنهم الداخلي، ولا سيما في ظل استمرار الانقسام الفلسطيني، الأمر الذي استُخدم ذريعة لتبرير مشاريع الوصاية الدولية وتفريغ القضية الفلسطينية من مضمونها الوطني.
لذلك، فإن فشل العديد من المبادرات السياسية لم يكن أمرًا عفويًا، بل جاء نتيجة تعمّد بعض الأطراف الإقليمية والدولية إبقاء حالة الانقسام الفلسطيني قائمة، لما تخدمه من مصالح تتناقض مع إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
حركة حماس والانقسام الفلسطيني
تتحمّل حركة حماس مسؤولية أساسية في تكريس الانقسام الفلسطيني، إذ لم تُبدِ، حتى الآن، جدية حقيقية في إنهائه. فقد تأسّس هذا الانقسام بعد أقل من عام على الانتخابات التشريعية والرئاسية، رغم فوز حماس بالأغلبية في المجلس التشريعي الفلسطيني وتوليها رئاسة الحكومة، حيث كانت تمتلك السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكان بإمكانها إحداث تغيير شامل عبر أدوات النظام السياسي الفلسطيني.
ورغم ذلك، تدّعي حماس أنها لا ترغب في حكم قطاع غزة، وتعلن دعمها لعودة السلطة الفلسطينية، لكنها في الوقت ذاته تدعم تشكيل مجلس لإدارة القطاع، وتقوم بتسمية شخصيات وتقديم أسمائها إلى الجانب الأمريكي، في تناقض واضح بين الخطاب والممارسة.
كما تدعو حماس بعض الفصائل، التي يقيم عدد من قياداتها في قطر، إلى عقد لقاءات في الدوحة أو القاهرة تحت مسمّى «فصائل المقاومة»، في حين أن بعض هذه الأطراف لا تمتلك صلة حقيقية بالمقاومة الفلسطينية، لا من حيث الشكل ولا المضمون، وتقتصر ممارساتها على الظهور الإعلامي عبر بعض الفضائيات.
الانقسام في خدمة المشروع الأمريكي
لقد استفادت الإدارة الأمريكية بشكل مباشر من استمرار الانقسام الفلسطيني، ما ساهم في تعميق الفصل الجغرافي والسياسي بين قطاع غزة والضفة الغربية، وإضعاف فرص قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
ومن أجل إنقاذ الوضع الفلسطيني، بات مطلوبًا موقف وطني واضح وصريح، لا سيما من حركة حماس، يقوم على الإجابة عن الأسئلة الجوهرية التالية:
1. هل حركة حماس معنية فعليًا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وفق قرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين، أم أن ذلك يتعارض مع حساباتها السياسية؟
2. هل الدول التي تعترف بدولة فلسطين وفق قرارات الشرعية الدولية وحل الدولتين مستعدة لفرض إرادتها على إسرائيل كدولة احتلال، عبر ممارسة الضغوط وفرض العقوبات والحصار في حال رفضها تنفيذ تلك القرارات؟
3. ما هو الموقف العربي والإسلامي الحقيقي؟ وهل الاكتفاء بالبيانات الصادرة عن القمم والمؤتمرات الدولية كافٍ، أم أن هناك أدوات سياسية واقتصادية لم تُستخدم بعد ويمكن تفعيلها في المرحلة الراهنة، خاصة في ظل تصريحات الإدارة الأمريكية ورئيس الكونغرس والسفير الأمريكي لدى إسرائيل؟
في ظل هذه التطورات، تحوّلت الانقسامات الفلسطينية لدى البعض إلى ما يشبه المهنة، من خلال عقد مؤتمرات في إسطنبول والدوحة، وأخرى تُعقد تحت غطاء «القدس»، مع تساؤلات مشروعة حول الجهات التي تموّل هذه المؤتمرات وتوفّر لها الغطاءين الأمني والسياسي.
وفي الوقت الذي لم يُسمح فيه بعقد المؤتمر القومي العربي في أي عاصمة عربية باستثناء بيروت، تحمل معظم المؤتمرات المنعقدة في إسطنبول وقطر برنامجًا واحدًا يتمثل في استهداف منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية تحت شعار الإصلاح.
ولا يعني ذلك أن منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها خالية من الأخطاء أو لا تحتاج إلى إصلاح، بل إن الإصلاح ضرورة وطنية عاجلة، ولكن يجب أن يكون بإرادة فلسطينية مستقلة وبمخرجات وطنية جامعة، وليس عبر مشاريع مشبوهة تستهدف تفكيك المشروع الوطني الفلسطيني.
إن التحديات الكبرى التي تواجه القضية الفلسطينية اليوم تستوجب تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وقبل فوات الأوان، حفاظًا على مسيرة طويلة من الكفاح الوطني والتراكمي لشعبنا الفلسطيني.
عمران الخطيب
📧 Omranalkhateeb4@gmail.com





