لم يكن التاريخ يومًا مسرحًا صافـيًا تتمايز فيه الأدوار بوضوح بين المثقف والسياسي، بل كان ـ ولا يزال ـ حقلًا كثيف الأشواك، تتشابك فيه السلطة بالمعرفة، والقرار بالقيمة، والواقع بالرؤية. فمنذ أن وُلدت السياسة بوصفها فنّ إدارة البشر، وُلدت معها الثقافة بوصفها سؤال المعنى، ولم يكن بينهما يومًا سلامٌ كامل ولا قطيعة نهائية، بل علاقة شدٍّ وجذبٍ، تتأرجح بين الافتتان والارتياب، وبين التبعية والصدام، وبين التواطؤ والمقاومة.
السياسي، في جوهر فعله، ابن اللحظة وضروراتها؛ يشتغل على الممكن، ويدير التوازنات، ويجيد فن المراوغة لأن بقاءه مرهون بقدرته على تسويق القرار لا على تعميقه. أمّا المثقف، فهو كائن المعنى البعيد، ينقّب تحت السطح، ويشكّك في البداهات، ويقيس اللحظة بمقياس القيم لا بمسطرة المصالح. من هنا ينشأ سوء الفهم البنيوي بينهما: يصمت السياسي عن الثقافة جهلًا أحيانًا، وخشيةً منها أحيانًا أخرى، لأنها مرآة فاضحة لخطابه. ويصمت المثقف عن السياسة إمّا خوفًا من بطش السلطة وأجهزتها، وإمّا ازدراءً لمشهدٍ يرى فيه اختزال العقل إلى دعاية، والفكرة إلى أداة سيطرة.
في السياق الغربي الحديث، استطاعت الحضارة ـ رغم كل تناقضاتها ـ أن تُخضع هذا التوتر لقوانين وتشريعات نظّمت العلاقة بين الطرفين، فحدّت من تغوّل السياسي، ومنحت المثقف مساحة مؤسسية للنقد والمساءلة. هناك، لا يختفي الصراع، لكنه يُدار داخل أطرٍ تسمح بإعادة التوازن كلما اختلّ، لأن سلطة الخطاب النقدي، وفاعلية المجتمع المدني، وحرية التعبير، تشكّل كوابح حقيقية أمام الانزلاق الكامل نحو الاستبداد أو التفاهة السياسية.
أما في محيطنا العربي والإسلامي، فالمشهد أكثر قتامة وتعقيدًا. المثقف هنا غالبًا كائن معطوب الدور، محدود التأثير، محاصر بين تاريخٍ ثقيل من التبعية والوصاية، وواقع سياسي لا يعترف إلا بولاءٍ كامل أو عداوةٍ صريحة. المنطقة الرمادية ـ تلك المساحة الأخلاقية التي تسمح بالنقد دون تخوين، وبالاختلاف دون قمع ـ يحتكرها السياسي بدهاء، بينما يُدفع المثقف إمّا إلى معارضة راديكالية تُقصيه، أو إلى موالاة تفرغه من جوهره، فيتحول إلى مثقف سلطة، يُبرّر بدل أن يُفسّر، ويُجمّل بدل أن يُعرّي.
هكذا يتكرّس نموذج المثقف المأسور: أسير التاريخ حين يستدعيه كتبرير، وأسير النظريات حين يحوّلها إلى أقفاص، وأسير الأخلاق حين تفقد بعدها النقدي وتتحول إلى خطابة. من شعراء البلاط القدامى إلى مثقفي الأحزاب الحاكمة، ومن يسارات مأزومة إلى أمميات دينية راديكالية، يتكرر المشهد نفسه: الثقافة تُستدعى لتزيين السلطة، أو تُقصى لأنها تُربكها.
إن الدور الحقيقي للمثقف لا يكمن في معاداة السياسة بوصفها قدرًا اجتماعيًا، ولا في الارتماء في أحضانها بوصفها مصدر نفوذ، بل في استعادة موقعه كضمير نقدي مستقل، يُعيد الاعتبار للعقل، ويفضح تزييف الوعي، ويُقاوم تسطيح النقاش العام. فحين يتخلى المثقف عن هذا الدور، لا تنتصر السياسة وحدها، بل ينتصر الفراغ، ويُترك المجتمع فريسةً للدعاية، والغريزة، والاصطفاف الأعمى.
في النهاية، ليست معركة المثقف مع السياسي معركة سلطة، بل معركة معنى. وحين يخسر المثقف هذه المعركة، لا يخسر موقعه فحسب، بل يخسر المجتمع فرصته في أن يرى نفسه خارج مرايا الخوف والتضليل.





