رسم المسلسل المصري “رأفت الهجان”، الذي بدأ عرضه في عام 1988 واستمر حتى الجزء الثالث في 1992، صورة أسطورية لرجل استخبارات مصري تمكن من التغلغل بعمق في المؤسسات الأمنية الإسرائيلية. لعب الممثل المعروف محمود عبدالعزيز فيه دور البطولة ببراعة، مجسدًا شخصية جذبت مخيلة المشاهدين وأصبحت جزءًا من الوعي العربي الجمعي. تحوّلت هذه القصة إلى سردية يقينية لا تقبل المساءلة، وصارت رمزًا للقوة والدهاء المخابراتي المصري.
غير أنّ تمحيص السردية التي يقدّمها المسلسل يكشف عن أنّ هذه الشخصية، على الأرجح، مصنوعة في دوائر اتخاذ القرار، وهي تبدو أقرب إلى ترويج “فتح استخباراتي” وهمي منها إلى عمل أمني حقيقي، وبطولة زائفة للتغطية على هزائم متناسلة.
الصحيح شبه الوحيد في رواية المسلسل أنّ رأفت الهجان، واسمه الحقيقي رفعت علي سليمان الجمال، وُلد في مصر عام 1927، وعاش في شبابه حياة منفلتة، ثم انتقل للعيش في أوروبا حيث تورط في أعمال تزوير، قبل أن تقرر الاستخبارات المصرية، لسبب ما، تجنيده.
الرواية الرسمية المصرية لا تذكر أية تفاصيل عن التحول المفاجئ في شخصية البطل الاستخباراتي المفترض، من شاب عابث كاره لتحمل المسؤولية إلى رجل أعمال يهودي مرموق تحت اسم “جاك بيتون”، تمكن من الوصول إلى إسرائيل والعيش في تل أبيب والتجسس على الدولة العبرية لسبعة عشر عامًا دون أن يتم اكتشافه من قبل الاستخبارات الإسرائيلية المعروفة بمهنيتها الصارمة والمشهودة عالميًا. هذا، بالطبع، يذكّر بقصة الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين وقصته الشهيرة في سوريا التي – وخلافا للإسطورة المصرية – انتهت باعتقاله ثم إعدامه عام 1965. لكن أوجه الشبه بين القصتين تنتهي هنا.
نشاط كوهين في سوريا معروف ومعترف به من جانب النظام البعثي في سوريا ومن جانب إسرائيل، وتوجد آلاف الوثائق المتعلقة بقضيته: صور، مراسلات، تسجيلات صوتية، تقنيات تجسس، محاضر جلسات استجوابه. وقد سلّم النظام السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع مؤخرًا (2500 وثيقة منها) إلى إسرائيل كـ”بادرة حسن نية”.
الوضع مع رأفت الهجان مختلف تمامًا: ليست هناك أية وثائق مكتوبة بخط يده، ولا صورة واحدة له في إسرائيل، لا مع الضباط الذين يُفترض أنّه جندهم لصالح المخابرات المصرية، ولا حتى وهو يتجول فيها في أحد شوارع تل أبيب مثلًا. إسرائيل، المعروفة بصرامتها في التعامل مع أخطائها، لم تتطرق أبدًا رسميا إلى قصة رأفت الهجان التي يُفترض أنّها أقسى هزائمها الأمنية. هناك صمت مطبق من جانب عائلته، زوجته الألمانية وابنه، والتعليق الوحيد جاء من أخيه، لكنه كان متحفظًا ولم يبدد الغموض الذي يلفّ قصة أخيه الشهير. والأغرب من ذلك أنّ الهجان، الذي يُفترض أنّه بطل قومي، اختار أن يُدفن في ألمانيا، لا في وطنه مصر.
المأثرة الكبرى المنسوبة إلى رأفت الهجان هي تحذيره من وجود قرار إسرائيلي بشن الحرب في صيف 1967، لكن القيادة المصرية أهملت تحذيره. وهذا يؤكد إمّا أنّ الهجان كان مصدرًا غير موثوق للمعلومات، أو أنّ القيادة المصرية تعاملت معه باستخفاف. وهذا، ينسف في الحالتين الأسطورة المنسوجة عن ‘الرجل الشبح”. لم يتم حتى الآن تقديم أي إنجاز ملموس لرجل الاستخبارات “الخارق”، كما أنّ دوره المزعوم في كشف واعتقال إيلي كوهين مختلق بالكامل.
بدأت أسطورة رأفت الهجان بعد وفاته في عام 1982 في عهد حسني مبارك، حينما كانت البلاد تعيش أزمة اقتصادية خانقة وعزلة سياسية بسبب القطيعة العربية بعد معاهدة كامب ديفيد، في وقت كانت فيه السلطة بحاجة إلى بطل قومي، حتى لو كان وهميًا، لإلهاء المواطنين عن أزماتهم الاقتصادية وشعورهم المرير بالهزيمة، وهو ما يرجح كونها مجرد “سردية تعويضية”.
ربما كان رفعت الجمال شخصًا حقيقيًا، بل وربما لعب دورًا محدودًا في لعبة الاستخبارات، لكن تحويله إلى أسطورة خارقة بلا أثر موثّق لا يعكس عبقرية مخابراتية بقدر ما يكشف أزمة في الوعي العربي وسرديته. رأفت الهجان، في النهاية، بطل من دخان.
تنويه:
كُتبت هذه المقالة في أعقاب متابعة حلقة من برنامج “الحكاية” للإعلامي المصري عمرو أديب، والتي أعاد فيها تسويق الرواية الرسمية المهترئة عن دور رأفت الهجان المزعوم في اكتشاف الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، تمامًا كما تُروى عادةً بين عامة الناس. هذه السردية سمعتها بنفسي مرارًا، وبقيت تتردد في الوعي الشعبي كحقيقة ثابتة. لم يكن الهدف من هذه السطور الردّ المباشر على عمرو أديب، بل مساءلة الأسطورة من جذورها، بما هي انعكاس لهزيمة المشروع القومي العربي، لا بطولات استخباراتية حقيقية.
يمكن مشاهدة حلقة عمرو أديب من برنامج “الحكاية” حول الدور المزعوم لرأفت الهجان في اعتقال إيلي كوهين عبر الرابط التالي:
