لم يهتم كثيرون ممن تابعوا مشاهد القاضى الأمريكى فرانك كابريو إن كانت تلك المقاطع عفوية أم منتجة بعناية، فالمهم أنهم كانوا يبحثون فيها عما يفتقدونه فى حياتهم اليومية: لمسة إنسانية، كلمة عدل، وجرعة رحمة وسط عالم تسيطر عليه القسوة والبيروقراطية الباردة. برحيل كابريو، يخسر العالم رمزًا نادرًا جمع بين قوة القانون ودفء القلب.
توفى «القاضى الرحيم»، كما أحب الملايين أن يلقبوه، بعد ساعات فقط من رسالته الأخيرة المؤثرة من سرير المستشفى، حين طلب من متابعيه أن يتذكروه فى دعائهم، مؤكدًا إيمانه العميق بأن قوة الدعاء ترفع الروح وتمنح الإنسان عزيمة على مواجهة أصعب اللحظات.
كان كابريو قاضيًا فى محكمة بلدية بروفيدنس بولاية رود آيلاند منذ منتصف الثمانينيات، لم يكن قاضيًا تقليديًا. لم يختبئ وراء نص القانون، بل مدّ يده للمتهمين ليستمع إلى قصصهم قبل أن ينطق بحكمه. كان يضع نفسه مكانهم، فيراعى ظروفهم المعيشية والعائلية، ويوازن بين هيبة القانون والإنسانية.
منحته هذه الروح مكانة خاصة فى قلوب الناس. تحوّلت قاعته الصغيرة، التى نظرت فى قضايا مرورية بسيطة ومخالفات بلدية، إلى منصة عالمية عبر برنامج «Caught in Providence»، حيث شاهد الملايين عبر التليفزيون ومقاطع الفيديو المنتشرة لحظات إنسانية لا تُنسى: عفو عن مهاجر فقير، ابتسامة لطفل يرافق والده، أو دمعة صادقة من رجل مسن.
ما ميّز كابريو لم يكن فقط سلطته القضائية، بل خلفيته الإنسانية. فقد نشأ فى أسرة مهاجرة متواضعة، عمل والده بائعًا للحليب، وكان هو نفسه فى طفولته ماسح أحذية وبائع صحف. تلك النشأة صنعت منه إنسانًا يعرف معنى الحاجة، ويفهم أن المخالفات القانونية قد تكون فى أحيان كثيرة انعكاسًا لظروف قاسية لا لفساد فى الأخلاق. لذلك لم يكن يضع «شارة تحت الروب القضائى، بل قلبا»، كما قال ذات مرة.
من بين عشرات المشاهد التى وثقت أحكامه، بقيت صورته وهو يعفى عجوزًا تسعينيًا من غرامة سرعة لأنه كان يقل ابنه المريض بالسرطان، محفورة فى ذاكرة الملايين. وكذلك موقفه مع لاجئ سورى تجاوز الثمانين، أوقف سيارته فى مكان ممنوع ليشترى طعامًا سريعًا، فاختار القاضى أن يسقط الغرامة، وقال له كلمات أدفأت القلوب: «نحن جميعًا جزء من هذا العالم، وعلينا أن نفتح أعيننا على معاناة الآخرين».
نكست الولاية الأعلام تكريمًا له، لكن التكريم الحقيقى فى قلوب البسطاء الذين وجدوا فيه صورة القاضى الذى يحكم بالعدل، لا بالخشونة. قاضٍ يرى الإنسان قبل أن يرى المخالفة، ويمنح القانون روحًا بدل أن يجرده من المشاعر.
لقد كان «القاضى الرحيم» أكثر من مجرد رجل جلس خلف منصة القضاء؛ كان صورة للعدل حين يلتقى بالتعاطف، وللرحمة حين تعانق القانون. وبموته، يترك للعالم درسًا لا يُنسى: أن العدالة التى لا تعرف قلبًا، لا تستحق أن تُسمى عدالة.
* نقلا عن ” المصري اليوم “