نشر توماس فريدمان، الصحفي المؤيد لإسرائيل، والقريب من دوائر الحكم في واشنطن وتل أبيب، مقالاً في نيويورك تايمز بعنوان “إسرائيل تحت خطر رهيب، وتهديد وجودي”، ذلك يوم الثلاثاء 24-9-2024.
انتقد توماس فريدمان، الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو، وكتب إن “إسرائيل التي عرفناها غير موجودة، وإسرائيل اليوم في خطر وجودي”. بسبب عوامل خارجية متمثلة بإيران وأذرعها في المنطقة، ولعوامل داخلية متمثلة في سياسة الحكومة الإسرائيلية اليمينية، التي اعتمدت غزواً انتقامياً، شنته حكومة نتنياهو على الفلسطينيين واللبنانيين، اتصف بالدموية وكثرة القتل للمدنيين، دون أي أفق سياسي لليوم التالي. ويقول: “عندما تخوض حرباً كهذه دون أفق سياسي لفترة طويلة، حرباً تنكر أية إمكانية لفلسطينيين أكثر اعتدالاً لحكم غزة، فإن العملية العسكرية الإسرائيلية هناك تبدأ في الظهور وكأنها قتل لا نهاية له من أجل القتل. هذا هو بالضبط ما تريده حماس وحزب الله وإيران”.
ويصر فريدمان على أن إسرائيل في خطر رهيب. وأنها “تخوض الحرب الأكثر عدالة في تاريخها، رداً على القتل الوحشي غير المبرر واختطاف النساء والأطفال والأجداد من قبل حماس، ومع ذلك أصبحت إسرائيل اليوم دولة منبوذة أكثر من أي وقت مضى”.
وأشار في مقالته أنه حذر من هذا الأمر بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية. يعتقد توماس فريدمان إن مكانة إسرائيل ومستوى القبول بها، والشرعية التي تم بناؤها بشق الأنفس على مدى عقود، تتآكل بسرعة متزايدة، كذاك ستنخفض مكانة واشنطن العالمية إلى جانب مكانة إسرائيل. يعتقد أنهم لا يقدّرون تماماً الغضب الذي يتصاعد في جميع أنحاء العالم، والذي تغذيه وسائل التواصل الاجتماعي ولقطات التلفزيون، بسبب مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، خاصة الأطفال، بالأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة في الحرب على غزة.
ويعتبر أن دور إيران الإقليمي هو أهم عوامل الخطر الخارجية على إسرائيل، حيث تمكنت من محاصرة إسرائيل من خلال حلفائها ووكلائها. قائلاً: “إن ما يحدث الآن هو تتويج لاستراتيجية إيرانية كبرى تقوم على إشعال حلقة من النار حول إسرائيل، باستخدام حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية، وحزب الله، والحوثيين، والمليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق، والمقاتلين في الضفة الغربية الذين تزودهم إيران بأسلحة مهربة عبر الأردن”.
وإزاء هذا التهديد لا تتمتع إسرائيل بتعاطف الكثير من العالم، بسبب الطريقة التي يشن بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وائتلافه المتطرف الحرب في غزة واحتلال الضفة الغربية. وانتقد فريدمان حكومة نتنياهو لأنها رفضت إدارة الحرب بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها تحقيق النجاح، لأنها تتعارض مع المصالح السياسية لرئيس الوزراء، والمصالح الأيديولوجية الدينية لحلفائه في الائتلاف الحاكم، وأعطى الأولوية لأمنه السياسي الشخصي، ورفعه فوق الأمن القومي لإسرائيل، ولأشهر، كان يضلل العالم وشعبه لإخفاء هذه الحقيقة.
ووجّه نقداً لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “لأنها لم تكن حازمة بما يكفي لحث الأطراف المتحاربة على سلوك مسار أفضل نحو الخروج من الأزمة المشتعلة في المنطقة”، مشيراً إلى أن بايدن وفريقه عرضوا على إسرائيل خريطة طريق مضادة لاستراتيجية إيران وحماس، ووفقا لفريدمان، فإن خريطة من هذا النوع كان من شأنها أن تمهد طريقاً لعزل حماس، والضغط عليها للموافقة على وقف إطلاق النار، الذي تخرج بموجبه إسرائيل من غزة، في مقابل الإفراج عن جميع الأسرى الإسرائيليين، وإنهاء الحرب هناك، وإبطال حجة حزب الله لمهاجمة إسرائيل من الشمال.
هذا المقال ينتقد الحكومة الإسرائيلية ليس من موقع الصهيوني المعارض لنتنياهو، لكنه ــــ وبكل خبث ـــ يمرر مبررات للعدوان الإسرائيلي، محاولاً إقناع القراء أن الحرب فرضت على إسرائيل، وهي في موقع الدفاع عن النفس، وبالتالي إلقاء مسؤولية العنف على منظمات فلسطينية “إرهابية”، دون النظر إلى جوهر الصراع، ومسبباته التاريخية في مظلومية الشعب الفلسطيني والتنكر لحقوقه الوطنية. في مقاله يلقي سؤالاً غير بريء، يكتب فريدمان: “ماذا كنتم لتفعلوا؟ منذ غزت حماس إسرائيل في 7 أكتوبر، وهاجم حزب الله إسرائيل في 8 أكتوبر، لم تطرح الحكومة الإسرائيلية على العالم أي سؤال بقدر ما طرحت هذا السؤال: ماذا كنتم لتفعلوا لو كنتم مكاننا؟ وهناك إجابة واحدة وصحيحة حسب فريدمان: “أن هناك دائماً إجابة صحيحة واحدة فقط لهذا السؤال: غزو غزة، ومطاردة كل زعيم ومقاتل من حماس، وقتل كل واحد منهم، وعدم الاستسلام للخسائر المدنية، ثم ضرب حزب الله في لبنان. والقيام بكلا الأمرين دون إضاعة الوقت في التخطيط لاستراتيجية خروج لأي منهما”.
في الرد على فريدمان نطرح ذات الصيغة وذات التعبير التي جاء بهما في مقالته، لكن بوجهة النظر الفلسطينية المعاكسة، والتي هي أصدق واقعياً لحقائق تاريخية راسخة، وليست أساطير وادعاءات باطلة.
ماذا كنتم لتفعلوا؟ منذ العام 1948 عام النكبة الفلسطينية، طُرد الفلسطينيون من قراهم ومدنهم التي عاشوا فيها وعاش فيها آباؤهم وأجدادهم آلاف السنين، وجاء مهاجرون يهود من كل أنحاء العالم ليحتلوا بيوتهم، ويستولوا على أرضهم، ويسرقوا ممتلكاتهم. لم تطرح حركة التحرر الوطني الفلسطيني على العالم أي سؤال بقدر ما طرحت هذا السؤال: ماذا كنتم لتفعلوا لو كنتم مكاننا؟.
ماذا سيفعل شعبكم إذا ارتكبت بحق أبنائه مجازر من قبل عصابات هاغانا وشتيرن وأرغون وبيتار وبالماخ الصهيونية، قتلوا أو شوهوا أو خطفوا أو اعتدوا جنسياً على مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين بقوا في منازلهم في دير ياسين والطنطورة وقائمة المجازر تطول، وكل ذلك بتشجيع ومساعدة من سلطات الانتداب البريطاني، ماذا كنت لتفعل؟.
وعبر سنوات طويلة حوصرت غزة، وتحولت إلى سجن كبير، وقصفت بشدة مرات عديدة، وارتكبت بحق سكانها أبشع المجازر، وكل ذلك بتشجيع من الولايات المتحدة الأميركية وغطائها السياسي لجرائم اسرائيل، ماذا كنت لتفعل؟
إنه سؤال قوي وذو وجاهة. وهو سؤال غالباً ما يتهرب منه منتقدو حركة المقاومة الفلسطينية. لكنهم ليسوا الوحيدين الذين يتهربون منه.
تريد حركات المقاومة، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أن نصدق أنا وأنت، وكل إنسان حر، وكل صاحب ضمير – بل وحتى الأسرائيليين – أن هناك دائماً إجابة صحيحة واحدة فقط لهذا السؤال: مقاومة الاحتلال حق مشروع، أما الإجابة الصحيحة الوحيدة لهذا السؤال عند فريدمان، فدعوة للقتل وعدم الاهتمام بالخسائر المدنية، كما ورد في مقاله: “غزو غزة، ومطاردة كل زعيم ومقاتل من حماس، وقتل كل واحد منهم وعدم الاستسلام للخسائر المدنية، ثم ضرب حزب الله في لبنان. والقيام بكلا الأمرين دون إضاعة الوقت في التخطيط لاستراتيجية خروج لأي منهما”.
منذ اليوم الأول كان الأمر فخاً، آسف أن أقول إن الإنسانية والمنظمات الدولية لم تستطع أن تتحاشى الوقوع في الفخ. لم تكن حازمة بما يكفي في منع الترانسفير ووقف الإبادة الجماعية، ولم تكن حازمة بما يكفي في الإصرار على طريق أفضل، طريق لم يتم سلوكه.
هذا ليس الوقت المناسب للتراخي. إن الشرعية الدولية، وقراراتها والحقوق الوطنية لشعب فلسطين في خطر جسيم اليوم. والخطر يأتي من الاستيطان والضم، ومجمل سياسات الائتلاف الحاكم الإسرائيلي الحالي العنصري والمتطرف والمتعطش للدماء اللبنانية والفلسطينية.
كما ترى، لم تكن لدي أية أوهام بشأن الأسباب الكبرى التي أدت إلى حدوث هذه الحرب. إنها تتكشف بوصفها استراتيجية صهيوـــ أميركية كبرى لتدمير إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، والضغط على دول عربية من أجل التطبيع مع الكيان الغاصب، وتمكين النفوذ الاستعماري الأميركي في المنطقة ــ مع السماح لإسرائيل بالحفاظ على الترسانة النووية الإسرائيلية، من خلال استخدام أسلحة الدمار الأميركية والغربية الأطلسية، لإبادة شعب بأكمله. هذه هي القصة الكبرى.
كان المحفز والهدف المباشر للحرب مصلحة إسرائيل وأميركا في إفشال الهيئات الدولية من تنفيذ قراراتها لتحقيق سلام عادل وشامل تعيد الحقوق لأصحابها.
كانت الاستراتيجية المضادة للحقوق الفلسطينية تتمثل في إشعال النار حول المدنيين في مخيمات غزة، لقتل أكبر عدد منهم، وكسر أرادتهم الوطنية، باستخدام السلاح والدعم الأميركي غير المحدود والتغطية على جرائم جيش الاحتلال، وفي الضفة الغربية تعيث قطعان المستوطنين فساداً وتدنيساً للمقدسات وانتهاكاً لحقوق الإنسان في التملك والتنقل بحرية، يسلحهم وزير الأمن إتيمار بن غفير، ويشجعهم على مهاجمة القرى والأحياء الفلسطينية، وتدمير الممتلكات واقتلاع أشجار الزيتون وحرقها. والاستراتيجية الإسرائيلية رائعة من وجهة نظر واشنطن: قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين لتصبح إسرائيل دولة لليهود فقط، إن الإيرانيين كمسلمين مستعدون للموت من أجل صون المقدسات الإسلامية في القدس المعرضة للتهويد، وهذا ما لا يرضاه أي مسلم شيعي أم سني، فلسطيني، سوري، يمني، عراقي وإن تطلب الأمر القضاء على إسرائيل ( يجب جذب انتباه العالم إلى خطورة انتهاكات إسرائيل للمقدسات الإسلامية والمسيحية، وفضح دور الفيتو الإمبريالي الأميركي في حماية الكيان الصهيوني، ومنع دول العالم من إدانة ممارساته الوحشية، ومنع صدور قرار أممي لوقف المحرقة الإسرائيلية ضد أبناء فلسطين).
المشكلة بالنسبة للإسرائيليين هي أنه في حين كانت حكومة نتنياهو كاذبة في روايتها عن طوفان الأقصى بأن المقاتلين ارتكبوا مخالفات لا إنسانية وغير أخلاقية، أدارت حربها بالطريقة النازية الوحيدة التي تتقنها وتؤمن بها، من خلالها الإبادة الجماعية وسياسة الأرض المحروقة، هذه الاستراتيجية لا تتعارض مع المصالح السياسية لرئيس الوزراء والمصالح الأيديولوجية لائتلافه الحكومي اليميني الفاشي.
إن إسرائيل تواجه تحدياً حقيقياً لسياساتها العدوانية من قبل محور المقاومة، وكان رئيس وزرائها وحلفاؤه يعطون الأولوية لمصالحهم السياسية والأيديولوجية ولفرض ديكتاتوريتهم النازية. حتى أنهم قاموا بإحياء محاولتهم الانقلابية القضائية لسحق المحكمة العليا الإسرائيلية، في خضم حرب الإبادة على غزة، والقصف العشوائي الذي يهدد حياة الرهائن في غزة. إن شريعة هنيبال واحدة من أكثر الحلقات المخزية في التاريخ اليهودي، والعار لجماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل آيباك في واشنطن لأنها وقفت مع حرب الإبادة.