يا أبا عمار…
نكتب إليك اليوم بعد واحد وعشرين عاما على رحيلك، كأنك لم ترحل، وكأن صوتك ما زال يتردد في أروقة الذاكرة: “يا جبل ما يهزك ريح”.
نكتب إليك لا لنرثيك، بل لنُصارحك بما آل إليه حالنا، وكيف صارت فلسطين أكثر وجعا، وأشد وحدة في غيابك.
منذ أن رحلت، لم تهدأ الأرض التي أحببتها.
غزة التي كنتَ تقول عنها “إنها قلب الثورة النابض”، تعرضت لحرب إبادة لا نظير لها في التاريخ الحديث. تم تدمير كل شيء فيها: البيوت، والمستشفيات، والمدارس، والمخابز، وحتى مراكز الإغاثة.
الناس هناك يا زعيمنا ماتوا جوعا بعد أن صارت المساعدات مصائد موت، وأصبح الخبز والدواء حلما بعيد المنال.
أطفال غزة الذين كنت ترفع صورهم في المحافل الدولية، صاروا اليوم رمادا على شاشات العالم، بينما يكتفي العالم بالصمت والتبرير.
وفي الضفة الغربية يا أبا عمار، يشتد الاستيطان كالنار في الهشيم، والمستوطنون يعيثون فسادا تحت حماية جيش الاحتلال.
يقتحمون القرى والمدن والمخيمات، يقتلون ويعتقلون، ويهدمون البيوت كما فعلوا مؤخرا في طوباس، وجنين، وطولكرم، ونابلس.
أما القدس فصارت تهود يوما بعد يوم. وبات الأقصى يدنس بوقاحة، وترفع فيه الأعلام الصهيونية، ويمنع الفلسطيني من الصلاة في باحاته، كأن الاحتلال يريد أن يطفئ جذوة الإيمان من صدورنا.
يا زعيم الثورة،
ما يؤلم أكثر من عدوان العدو هو ما أصابنا في داخلنا.
الانقسام الفلسطيني طال كل بيت وشارع، وصار حديث الناس مرارة لا تنتهي.
تحول الخلاف السياسي إلى جدار من الكراهية، وتبددت روح الوحدة التي كنت تجمعنا حولها رغم كل الصعاب.
كنا نختلف معك أحيانا، لكننا لم نختلف على فلسطين، أما اليوم فقد اختلفنا على كل شيء، حتى على المعنى.
منظمة التحرير الفلسطينية التي شيدتها بعرقك ونضالك، باتت اليوم هيكلا بلا روح.
كنا نراها المظلة التي تجمع الكل الفلسطيني، واليوم صارت عنوانا للغائبين.
صوتها خفت، وحضورها تراجع، وكأن الثورة التي حملتها في قلبك انتهت بانتهاء جيلك.
يا أبا عمار،
الفساد ينهش مؤسساتنا كما لم يحدث من قبل، والناس تفقد ثقتها بكل من في السلطة.
الرواتب تتأخر، والموظفون يعيشون بين القهر والحاجة، بينما تتكدس الثروات في أيدي القلة.
كم نتذكرك وأنت على فراش المرض، والهم الوطني لا يفارقك، حين استدعيت وزير المالية آنذاك سلام فياض وسألته بضعف الجسد وقوة الإرادة:
“هل دفعت رواتب الموظفين؟”
وعندما أجابك بأن هناك تأخيرا، قلت له:
“إياكم أن تتأخروا، قوت الناس أمانة، والراتب هو كرامة الموظف.”
يا ليت من جاء بعدك سمع تلك الكلمات ووعاها.
اليوم يهدد الموظف في لقمة عيشه، ويعامل المواطن كرقم في معادلة سياسية لا إنسانية.
أين ذهبت بساطة القائد الذي كان يسهر مع شعبه ويأكل من طعامهم؟
أين تلك اليد التي كانت تمسح على وجع المخيم وتقول: “صبرا، النصر قريب”؟
نخاطبك اليوم يا زعيمنا لأننا بحاجة لصوتك أكثر من أي وقت مضى.
غابت القامات الوطنية التي كانت توحدنا، وصار المشهد السياسي فوضى من المصالح والولاءات.
الدم الفلسطيني يراق على يد الاحتلال، وأحيانا بسكوت بعضنا عن بعض، والمشروع الوطني الذي حلمت به يترنح بين يأس الداخل وتآمر الخارج.
نسألك من عمق الحنين:
لو كنت بيننا اليوم، ماذا كنت لتقول؟
كيف كنت ستواجه هذا الانقسام وهذه الردة الوطنية؟
كيف كنت سترد على الجوع الذي ينهش الناس، وعلى الاحتلال الذي يزداد وقاحة؟
نسمعك في ضميرنا ترد بصوتك الأجش المبحوح من دخان المعارك:
“عودوا إلى وحدتكم، فالوطن لا يبنى على الشقاق.
أعيدوا الاعتبار لمنظمة التحرير، فهي بيتكم الجامع لا بيت فصيل.
لا تتركوا القدس وحيدة، ولا تبيعوا غزة للصمت أو للمقايضة.
لا تخافوا من الفقر، بل من الفساد، فهو الاحتلال الداخلي الذي يقتل الأمة من داخلها.
قوت الناس كرامة، ومن يسرق لقمة الفقير لا يحق له أن يرفع علم فلسطين.
لا تساوموا على دماء الشهداء، فهم من صنعوا هذه الهوية، ولا تنسوا أن البندقية التي لا تحمي القرار الوطني هي عبئ على الثورة.”
يا أبا عمار،
نم قرير العين، فبرغم هذا الظلام، ما زال في فلسطين من يرفع رايتك، ويؤمن أن الثورة ليست ذكرى بل فعل يومي في وجه الظلم.
هناك أمهات يربين أبناءهن على حب الوطن، وشباب يواجهون الدبابة بالحجر، وأسرى يكتبون في الزنازين قصص الصمود التي كنت تفتخر بها.
ما زال الشعب الذي أحببته كما هو: عنيد، شامخ، لا ينكسر.
سلام عليك في ذكراك يا قائد الثورة،
سلام على كوفيتك التي صارت راية لكل الأحرار،
وسلام على وصيتك التي ما زالت تلهم الأجيال:
“ثورة حتى النصر.”







